وقفتنا اليوم مع قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً، ويكفِّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم} (الأنفال: 29).
تبين هذه الآية ثمرات التقوى، وهي الفرقان، وتكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وهي فضل من الله صاحب الفضل العظيم، وجاء التعبير عن هذه الحقيقة بجملة شرطية، تدل على أن جواب الشرط لا يمكن أن يحصل إلا بحصول فعل الشرط، لأنه مبني عليه، فعل الشرط جملة: { اتتقوا الله }، وجواب الشرط جملة:{ يجعل لكم فرقاناً }.
وقد تحدث القرآن كثيراً عن التقوى، وحث المؤمنين على تحصيلها والتمكن منها، وذكر بعض صفات المؤمنين المتقين، بحيث يمكن أن نعتبر القرآن كتاب التقوى.
والتقوى من الوقاية، وهي الحذر والانتباه، واليقظة والاحتراز، والابتعاد عن الخطر والأذى والهلاك، وسلوك طريق الأمان والنجاة.
وهي وسيلة إيمانية عالية للتزكية والتربية والتطهر، والارتقاء في عالم الفضيلة والسمو والكرامة، والتخلص من الآفات والرذائل والنقائص، والاستمرار في هذا الطريق حتى الموت، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران: 102).
ومما قيل في تعريف التقوى: إنها الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وسئل أحد المربين عن تقوى الله، فقال: هي أن لا يراك الله حيث نهاك، وأن لا يفتقدك حيث أمرك.
وأجمل كلام عن التقوى؛ ما ورد في حوار بين عمر بن الخطاب وأُبيّ بن كعب رضي الله عنهما، حيث قال عمر لأُبيّ: ما هي التقوى؟ فقال له أُبي: يا أمير المؤمنين، هل سرت في طريق فيه شوك! قال عمر: نعم. قال أُبي: ماذا فعلت؟ قال عمر: رفعت ثوبي لأرى أين أضع قدمي، لئلا أدوس على الشوك. قال أُبي: هذه هي التقوى!!
وإن أشواك الذنوب تملأ كل شيء حولنا في هذه الأيام، وهي أشواك دامية، لا تضرب الأقدام، وإنما تضرب القلوب، فينزف منها الإيمان والحياء، والطهر والعفاف، وتتصفى تلك القلوب من الفضائل، وتمتلئ بالنقائص والرذائل.. ولا بد من الحذر من تلك الأشواك، وإبقاء القلوب في حصانة ومناعة، وحياة وحيوية وإشراق.
وعندما يحقق المؤمن التقوى في حياته، فتكون حالة إيمانية دائمة لا تفارقه لحظة من ليل أو نهار، أينما تحرك أو سار؛ فإنه يكون ربانياً متصلاً بالله، مُقْبلاً عليه، لا سلطان للشياطين عليه.
وليست التقوى وسيلة للحفظ والصيانة والمناعة فقط، ولكنها طريق للاحتفاظ بالمواهب والمدارك، والطاقات والقوى، التي وهبنا الله إياها، فبها نحافظ على عقولنا وذكائنا، وبها نرتقي باهتماماتنا ومشاعرنا..
أما الذنوب والمعاصي فإنها خطيرة مدمرة، تستنزف مواهبنا وطاقاتنا، وتضيع عقولنا ومداركنا، وتقتل حواسنا ومشاعرنا، وتبيد أبداننا، وتقضي على حياتنا، إضافة إلى كونها سبيلاً لدخول النار يوم القيامة.
القرآن نفسه فرقان، يفرق بين الحق والباطل، وهو يمنح المسلم الفرقان، القائم على الذكاء والفطنة والانتباه، فيميز بين الحق والباطل، والعدو والصديق.ويمنُّ الله على عبده الصالح التقي، فيمنحه "الفرقان" الذي يفرق به بين الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والصالح والفاسد، والعدو والصديق، والربح والخسارة: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً..}.
إن هذا الفرقان الضروري للإنسان لا يوجد إلا في القرآن، ولا يمكن إدراكه إلا بتحقيق التقوى، والتفاعل بالإيمان فالقرآن نفسه فرقان، يفرق بين الحق والباطل، وهو يمنح المسلم الفرقان، القائم على الذكاء والفطنة والانتباه، فيميز بين الحق والباطل، والعدو والصديق.
ومن سمات عصرنا الإعلامية؛ أنه عصر يقوم على التزوير والتزييف، وعلى الافتراء والكذب والخداع، وعلى قلب الحقائق، وتغيير المدارك، وتزيين وتجميل المفاسد، ودعوة الناس إليها، وإصابتهم بعد هذا الغزو الإعلامي والإعلاني والفني بحالة من "عمى الألوان"؛ فيرون الأسود أبيضاً، والعدو صديقاً!
والقرآن يعطي المؤمن "منظاراً" دقيقاً حساساً، يرى فيه الأشياء على حقيقتها وحجمها ولونها، ويستشرف نهاياتها ونتائجها، فلا يتعامل معها بسذاجة وبلاهة، وإنما بوعي وبصيرة، وعلم وفراسة، فلا يكون عنده الشر خيراً، ولا الخيانة شرفاً، ولا الأمانة عجزاً، ولا التحلّل فناً، ولا اليهودي صديقاً مشاركاً!!