د.شبير: كذب الدُّعاة تدمير للدَّعوة الإسلامية.
د.سلامة: كذب المتدينين باعث على سوء السّمعة وانعدام الوثاقة.
السوسي: التعوّد على الكذب منذ الصّغر من أهم أسباب كذب بعض الدعاة.
حدّثني صديقٌ من مصر عن قصةٍ كانت بطلتها جارةً له، قال: "كان في قريتنا شيخٌ داعيةٌ جليل، مفوّهٌ يؤمّ الناس ويخطب فيهم.. يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وقول الزور.. وكان الناس يقصدونه في حوائجهم كلّها فينصح ويُفتي وعلى الناس التنفيذ.. كيف لا وهو للصِّدق عنوان! وللعدل ميزان..
وكانت جارتنا أمّاً لطفل، تعيش حياةً متوترةً مع زوجها الذي استغل استقرار أهلها جميعاً داخل المملكة العربية السعودية، فكان يضربها ويمنعها المأكل والمشرب حتّى ضاقت ذرعاً به، فحملت ابنها، وذهبت إلى دار الشيخ يوماً تستفتيه في أمرها، فرحّب بها واستنكر ما اقترفه زوجها بحقها وطلب من زوجته استضافتها حتى يحلّ أمرها معه..
اهترأ حذاء الدَّاعية جيئةً وذهاباً بين بيت الزَّوج -الذي تعهّد أمامه بالإحسان إلى زوجته- وبين بيته حيث الزوجة كانت تسمع قولاً آخر!! نعم.. لم تكن "حقيقة" تلك التي كان الشيخ ينقلها للزوجة على لسان زوجها، إذ ألقى إلى مسامعها تهديداتٍ وهمية "ابتدعها" من عقله، تتوعدها بردٍّ قاسٍ بمجرد أن تطأ قدماها أرض بيته، حيث زوجها سوف يسيء معاملتها أكثر، محاولاً إقناعها بأن مشكلتها تقف عند طريقٍ مسدود، وأن لا حلّ لها إلاَّ "الطلاق".. وهو كفيلٌ بإتمامه!!
قادرٌ "فاجرٌ"!
"لقد أغوى الشيطان الدَّاعية" يتابع الصّديق المصري القول، :"فتعلّق قلبه بتلك المرأة –وهو الشيخ الهرم- فأقسم إيماناً معظمة أن تصبح له زوجة!!.. وفعلاً، طُلّقت المرأة من زوجها بعدما كذب عليها الدَّاعية "الجليل" وعقد قرانه عليها متعهّداً برعايتها وابنها الصَّغير إلى ما شاء الله!!
ولم تكن القصة لتُكتشف إلاَّ بعدما التقى الزوج بإحدى أقارب زوجته –السَّابقة- صدفةً، ففتحا دفتر الماضي، فإذا بالزَّوج يتهمها بأنَّها السبب في إفشال مسيرة حياتهما بسبب عنادها ورفضها العودة تماماً –كما أخبره الشيخ (زوجها الحالي)".. انتهى!
إنَّما هذه القصة عزيزي المتصفح من "بلايا الدَّهر"، وهي قصةٌ ربما قليلاً ما نسمع مثلها عن "الدّعاة".. ولكنَّها حقيقية، وللأسف كم يشعر المسلم بالأسى عندما يرى أناساً (هم واجهة الإسلام) يتناسون قول معلّمهم الأوَّل النبي صلى الله عليه وسلم :(إيَّاكم والكذب، فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا). رواه مسلم.
يذكر أنَّ العرب كانوا في الجاهلية يعدّون الكذب "منقصة للرجولة" فكان الكذبُ في نفوسهم أعظمُ تهمة ينفرون منها.
وممّا يدلّل على ذلك، قول أبي سفيان حين سأله هرقل عن النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)، فقال: "فو الله لولا الحياء من أن يؤثر أصحابي عنّي الكذب لكذبته حين سألني عنه.. ولكنّي استحييت أن يؤثروا الكذب عني فصدقته".
التطبّع بالكذب
د. وليد شبير
"إنَّ الدَّاعية الكذَّاب يكتسب صفة الكذب نتيجة تعوّده عليه منذ صغره، وقبل دخوله غمار الدَّعوة أصلاً، ممَّا يصعب عليه التخلص من تلك الصّفة الذميمة"من جانبه قال المختص الاجتماعي د.وليد شبير :"إنَّ الدَّاعية الكذَّاب يكتسب صفة الكذب نتيجة تعوّده عليه منذ صغره، وقبل دخوله غمار الدَّعوة أصلاً، ممَّا يصعب عليه التخلص من تلك الصّفة الذميمة"، مبيّناً أنَّ النسبة الأكبر من المتدينين والدعاة يتركون تلك الصفة بعد انخراطهم في الدَّعوة والتعرّف على أحكام الكذب وعواقبه.
وأكَّد أنَّ كذب الدّعاة يعدُّ "تدميراً" للدعوة الإسلامية :"لأنَّ الدَّاعية يمثِّل القدوة للنَّاس، فينشغل ضعاف الإيمان بكذب ذلك الدَّاعية ويقلّدوه، وينشرون ما قاله بين الناس ممَّا يترك أثراً سلبياً بالغ الخطورة لديهم، كما أنَّه يسهّل الطريق أمام النَّاس لتعميم القول بكذب الدّعاة، منوّهاً إلى أنَّه ينبغي على الدَّاعية عندما يخفى عليه أمر ولا يعرف حكمه أن يقول: لا أعرف "فذلك أسلم له ولدينه".
وأضاف :"على الدَّاعية أن يلتزم الصدق لأنَّه من صفات المؤمن، ويبتعد عن الكذب والنفاق، لكن البعض قد ينتحل شخصية الدُّعاة لأطماع معيّنة، للحصول على موارد مالية أو لتحقيق مصالح خاصة، والدّافع وراء ذلك هو ضعف الوازع الديني.. والقصص في ذلك كثيرة".
خطةٌ محكمة..
د. سالم سلامة
" كذب الدعاة باعث على سوء السمعة، وسقوط الكرامة، وانعدام الوثاقة، ويضعف ثقة الناس بعضهم ببعض ويشيع فيهم أحاسيس التوجس والتناكر، كما أن له آثار روحية سيئة ومغبة خطيرة"
د.سالم سلامة رئيس هيئة علماء فلسطين بدوره، أكّد أنَّ الكذب حرام على جميع المسلمين بشكلٍ عام، وعلى المتدينين ومن يمثلون الإسلام أن يكونوا ألصق بالصّدق وألزم به من غيرهم لأنَّهم قدوة المجتمع، وهم المطالبون بإتمام العدالة، ذاكراً وصف النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم بين أهليه قبل البعثة بأنَّه "الصَّادق الأمين"، فكيف بعد أن نزلت الرّسالة السّماوية وبلّغت بحرمانية الكذب؟!
وحسب د.سلامة، فإنَّه يحرم الكذب على الإنسان المسلم إلاَّ في ثلاث حالات :"في حالة الحرب والوقوع في الأسر، أو للصلح بين المتخاصمين، أو الكذب على الزَّوجة من أجل درء خطر الانفصال.. أمَّا في غير ذلك فيعدُّ الكذب أمراً مشيناً ولا يفعله سوى الضعفاء".
ومن شأن الكذب أن يغيّر الأمر من الحق إلى الباطل، والدليل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلمّ :"أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خَصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدَر، وإذا خاصم فجر". متفق عليه.
ويضع رئيس هيئة علماء فلسطين خطةً للمرء المسلم بشكل عام – يمكنه اتباعها للتخلص من بلاء الكذب- إذ قال :"وذلك بالتعرف على أنَّ الكذب من كبائر الذنوب، ومراقبة الله واستشعار نظره، والحياء من ملائكة الرحمة الموكلين بكتابة ما ينطق به ابن آدم، فتستحي منهم أن يكتبوا في صحيفتك افتراءك للكذب، ثمَّ سؤال الله كثيراً بذلٍ وإلحاح أن يجعل الصدق صفةً لك، وأن يبغض إليك الكذب ويصرفه عنك، بالإضافة لصحبة الصالحين".
وأردف قائلاً:"ينبغي طلب العلم النافع، لأنه يقرب إلى الله تعالى، ويقضي على أسباب الكذب والتي منها: عدم إقدار الله حق قدره بالجهل بأسمائه وصفاته وأفعاله، والخوف من غير الله، وعدم التوكل على الله، وغير ذلك من الأسباب".
وأكَّد أنَّ كذب المتدينين والدّعاة له أثر عظيم الضّرر على الإنسان وأهله وشعبه وقضيته، "فهو باعث على سوء السمعة، وسقوط الكرامة، وانعدام الوثاقة، ويضعف ثقة الناس بعضهم ببعض ويشيع فيهم أحاسيس التوجس والتناكر، كما أن له آثار روحية سيئة ومغبة خطيرة".
تساهلٌ في بعض الحديث!
محمد السوسي :
هناك بعضَ الأسباب التي تدفع بعض الدّعاة والمتدينين إلى الكذب منها "عدم تحمل المسئولية ومحاولة الهرب من الحقائق في الأزمات والمواقف، أو التعود على الكذب منذ الصغر، بالإضافة إلى الرَّغبة في مسايرة المجالس ولفت الأنظار بقصص ومعلومات كاذبة".
بدوره اعتبر أ.محمد السوسي المحاضر في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية الكذب من قبائح الذنوب وفواحش العيوب، حيث قال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الاسراء 36، وقال (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق 18 وقال العلماء: "إن الصدق يهدي إلى العمل الصالح الخالص من كل مذموم".
وأضاف :"نصّ الفقهاء على أن الكذب ينقسم إلى أقسام حكم الشرع الخمسة، والأصل فيه التحريم، فالأوّل المحرم، وهو ما لا نفعٌ فيه شرعاً، والثاني المكروه وهو ما كان لجبر خاطر الوالد أو خاطر الزَّوجة، والثالث المندوب، وهو ما كان لإرهاب أعداء الدين في الجهاد، كأن يُخبرهم بكثرة عدد المسلمين وعددهم".
أمَّا القسم الرابع –والحديث للسوسي- فهو الواجب وهو ما كان لتخليص مسلم أو ماله من هلاك، بالإضافة إلى المباح، وهو ما كان للإصلاح بين النَّاس، وقد قيل بقبحه مطلقاً؛ لما ورد في أهله من الذّم في كتاب الله العزيز.
وأوضح أنَّ هناك بعضَ الأسباب التي تدفع بعض الدّعاة والمتدينين إلى الكذب منها "عدم تحمل المسئولية ومحاولة الهرب من الحقائق في الأزمات والمواقف، أو التعود على الكذب منذ الصغر، وهذا من سوء التربية إذ يرى والده يكذب وأمه كذلك، بالإضافة إلى الرَّغبة في مسايرة المجالس ولفت الأنظار بقصص ومعلومات كاذبة".
ونوَّه السوسي إلى أنَّ بعض المتدينين يتساهلون في بعض الحديث ولا يعدّونه كذباً مثل :"دعوة الصَّغير لأخذ شيء، ليس معهم منه، أو التَّحدث بكل ما يسمعون، والتحدّث بالكذب لإضحاك النَّاس".
ويبقى التساؤل ماذا لو زادت نسبة أولئك المتدينين الذين ابتلوا ببلاء الكذب؟ كيف ستصبح صورة الدُّعاة ومن يمثلون الإسلام ويرفعون شعاره ويعتبرون القدوة داخل المجتمع؟ وهل سيبقى احترامٌ للمتدينين والدُّعاة بعد ذلك؟