بعض النَّاس لا يعجبهم التفاؤل أبداً، ويتشبثون بالهمّ والغمّ واليأس والقنوط .. يتمسّكون بوجه عابس ولسان متأفف، وعينان تدوران على غير هدى.. سبحان الله ، تقول له: أبشر ودع عنك العبوس والتقطيب وأبشر، فيردّ عليك كما ردَّ ذلك الأعرابي بأنك أكثرت عليه البشرى!!
تقول له: إننا نعيش ظروفاً مختلفة عن الزَّمن الذي مضى، وبتنا قريبين من نصر موعود إن نحن بذلنا أسبابه، فيردّ عليك بأنك تهرف بتخاريف لا مكان لها على أرض الواقع..
يشكو إليك من تصاريف الزَّمان وضيق الحال، فتصبّره بآيات وأحاديث تبشر الصَّابرين وتحثه على التفاؤل، فيصمّ آذانه عنك، ويلوي عنقه مبتعداً دون أن ينتفع بما قلته له.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنت عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة، ومعه بلال، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: ((أبشر)). فقال: قد أكثرت عليَّ من أبشر، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: ((ردَّ البشرى، فاقبلا أنتما)). قالا: قبلنا، ثمَّ دعا بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه، ثم قال: ((اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا)). فأخذا القدح ففعلا فنادت أم سلمة من وراء ستار: أن أفضلا لأمّكما، فأفضلا لها منه طائفة. (رواه البخاري ومسلم).
يشكو إليك من تصاريف الزَّمان وضيق الحال، فتصبّره بآيات وأحاديث تبشر الصَّابرين وتحثه على التفاؤل، فيصمّ آذانه عنك، ويلوي عنقه مبتعداً دون أن ينتفع بما قلته له.
لله درّ أبي موسى وبلال رضي الله عنهما فقد سارعا للاستجابة وقبلا البشرى مع أنهما لم يعرفا ما هي!!
إنها الثقة المطلقة بما يعد به رسولنا الصادق الوعد الأمين، فقد ورد أن الأعرابي استبطأ الحصول على الغنائم ويبدو أنه كان حديث عهد بالإسلام وسال لعابه لرؤية الغنائم الوفيرة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهذبه بأخلاق النبوة أن أبشر بأنك ستحصل على ما تريد ولكن تأخر ذلك لا يعني عدم حصوله..
وفي ذلك تربية لأتباعه على تعليق قلوبهم بما هو عند الله تعالى والثقة بما في يديه الكريمتين أكثر ممّا نجده ونراه عياناً..
وتأفف ذلك الأعرابي أظهر طويّته وكشف عن ضعف يعتري كثيرين منا، عندما نستعجل المغنم ونستأخره..
وليس غريباً على رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي يعرف مداخل هذه النفوس وشواغلها أن يصف داءها ودواءها ويحفز المتقين على عدم الانجرار وراء هوى النفس ولعاعة الدنيا..
فهذا عمرو بن عوف وكان شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح فقدم بمال من البحرين وسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرّضوا له فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال: أظنّكم سمعتم أنّ أبا عبيدة قدم بشيء قالوا: أجل يا رسول الله قال فأبشروا وأمّلوا ما يسرّكم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكنّي أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم. رواه ابن ماجه والترمذي في سننه وقال : (هذا حديث صحيح).
إنَّ هذا الحديث يسوقنا إلى حديث آخر يرويه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، ويقول فيه: (( كنت أنا وأصحابي الذين قدموا معي في السفينة نزولا في بقيع بطحان، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فكان يتناوب النبي صلى الله عليه وسلم عند صلاة العشاء كل ليلة نفر منهم، فوافقنا النبي عليه السلام أنا وأصحابي، وله بعض الشغل في بعض أمره، فأعتم بالصلاة حتى أبهار الليل، ثمَّ خرج النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم، فلما قضى صلاته قال لمن حضره: على رسلكم، أبشروا، إن من نعمة الله عليكم، أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم. أو قال: ما صلّى هذه الساعة أحد غيركم. لا يدري أي الكلمتين قال، قال أبو موسى: فرجعنا، ففرحنا بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم)). رواه البخاري.
أليس لنا قدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّهاتنا أمّهات المؤمنين وصحبه رضي الله عنهم أسوة حسنة؟؟ بلى والله ..
إنَّ من يقبل البشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم يكافئه الله تعالى بالمزيد من البشارات والأعطيات والكرامات، وفي صحيح أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشارات عديدة وكثيرة ما أجملها وما أعظمها ونحن غافلون عنها بل ونردّ أكثرها بإعراضنا عنها وعدم قناعة آخرين بها!! ومن ذلك أنك تقول لمتكاسل بأن ركعتي الفجر تعدل الدنيا وما فيها فيجيبك بلسان الحال لا لسان المقال: "نومة وتمطيطة تعدل الدنيا وما فيها"!!
وهنا لابد من التأكيد على أن البشر والتفاؤل والحثّ عليه لم يقتصر على ما ورد في الحديث أعلاه، ولكنه تكرّر في مرات عديدة ومواقف كثيرة لترسيخه خلقاً سامياً يتخلق به أتباعه صلّى الله عليه وسلم ومحبيه أقتطف من روضه الزَّاهر بعضاً أزاهره العطرة بالبشرى؛ فهو يشدّ ألبابهم وقلوبهم وعقولهم بقوله: "أبشروا"، كما في الباقة النضرة الآتية من الأحاديث الصحيحة والحسنة :
فلنستبشر إذن، ولنبادر ونشمّر عن ساعد الجد دعاة مبشّرين لا منفرين متمسكين بهدي الحبيب صلى الله عليه وسلم، موقنين تمام اليقين بما بشّرنا به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم رغم اشتداد المحن وازدياد البلاء.
(( أبشروا وأبشروا أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ )). قالوا : نعم. قال: (( فإنَّ هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضللوا ولن تهلكوا بعده أبداً )). (صحيح ابن حبَّان).
((أبشروا، وبشّروا من وراءكم، إنه من شهد أن لا إله إلاَّ الله صادقا بها دخل الجنة)). (مسند الإمام أحمد).
((أبشروا، هذا ربّكم قد فتح باباً من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي، قد قضوا فريضة، وهم ينظرون أخرى)) . ( سنن ابن ماجه، ومسند الإمام أحمد).
((سدِّدوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنَّه لن يدخل أحدكم الجنة عمله؛ ولا أنا؛ إلاَّ أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)). (البخاري ومسلم).
كان صلى الله عليه وسلم يحدّث قائلاً: ((لا عدوى ولا طيرة. ويعجبني الفأل: الكلمة الحسنة، والكلمة الطيبة)). (رواه مسلم في صحيحه).
وهاهو يعلمهم تقديم الفأل الحسن في أشد الأوقات فعن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلّم: (( لقد سهل لكم من أمركم )). (صحيح البخاري).
وكان يحثّ أصحابه وأمّته من بعده أن يسيروا على ذلك النهج في حديثهم ودعوتهم وأفعالهم وجميع معاملاتهم فقد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره، قال: ((بشّروا ولا تنفّروا. ويسّروا ولا تعسّروا)). صحيح مسلم.
وعودة لحديثنا الرَّئيس في هذا الموضوع ..
فللّه درّ أمّنا أمّ المؤمنين أمّ سلمة، فإنَّها لم تزهد أبداً بخير يمكن أن تحصل عليه.. لم تقل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها وأن بإمكانها أن تحصل منه على ما هو أكثر مما حصل عليه صحابته.. ولكنها اقتنصت الفرصة لأنها فرصة تتعلق بخيري الدنيا والآخرة.. اقتنصتها لعلمها وإيمانها بأنه لا ينطق عن الهوى وأن كل ما يصدر عنه حق وخير وبركة..
أليس لنا قدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّهاتنا أمّهات المؤمنين وصحبه رضي الله عنهم أسوة حسنة؟؟ بلى والله ..
فلنستبشر إذن، ولنبادر ونشمّر عن ساعد الجد دعاة مبشّرين لا منفرين متمسكين بهدي الحبيب صلى الله عليه وسلم، موقنين تمام اليقين بما بشّرنا به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم رغم اشتداد المحن وازدياد البلاء.