في يوم التاسع والعشرين من أغسطس عام 1966م كانت الأقدار ترسم المشهد الأخير لأحد أبرز دعاة مصر وقادة فكرها، وأكثر الشخصيات الاجتهادية والفكرية تأثيراً في الحركات الإسلامية التي وجدت في بداية الخمسينيات حتَّى ثمانينيات القرن الماضي؛ إنَّه الشهيد سيّد قطب صاحب الظلال .
وضعه زبانية الرَّئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر على كرسي المشنقة، ثمَّ عرضوا عليه "أن يعتذر عن دعوته لتطبيق الشريعة حتى يتم العفو عنه"، فقال: "لن أعتذر عن العمل مع الله ، ثمَّ قال: إنَّ إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفاً واحداً يقرّ به حكم طاغية".
ثمَّ قالوا له: إن لم تعتذر، فاطلب الرَّحمة من الرئيس عبد الناصر، فقال: "لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوماً بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوما بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل" .
نشأته وحياته ..
ولد سيّد قطب لأسرة عريقة في يوم 9-10-1906م بقرية موشة بمحافظة أسيوط، وهو الابن الأوَّل لأمه بعد أخت تكبره بثلاث سنوات وأخ من أبيه غير شقيق يكبره بجيل كامل ، وكانت أمه تعامله معاملة خاصة وتزوده بالنضوج والوعي؛ حتى يحقق لها أملها في أن يكون متعلمًا مثل أخواله، كما كان أبوه عميدًا لعائلته واتسم بالوقار والتديّن.
تلقّى سيد دراسته الابتدائية في قريته عام 1920م، ثمَّ سافر إلى القاهرة، والتحق بمدرسة المعلمين الأوّلية، ونال منها شهادة الكفاءة للتعليم الأوّلي.
أتمَّ حفظ القرآن الكريم في سنة الحادية عشر، ثمَّ التحق بتجهيزية دار العلوم. في سنة 1932م، وحصل على شهادة البكالوريوس في الآداب من كلية دار العلوم. وعمل مدرساً لنحو ست سنوات.
حصل سيّد قطب على بعثة للولايات المتحدة في عام 1948م لدراسة التربية وأصول المناهج، وهناك تعرَّف على حركة الأخوان المسلمين، فعندما تم اغتيال حسن البنا، ابتهج الأمريكيون ممَّا أثَّر في نفسية سيد قطب، وأراد أن يتعرَّف على هذه الحركة عندما يعود إلى بلده.
العودة للوطن ..
لم تكن عودة سيّد قطب الى وطنه يوم 23 أغسطس 1952م مجرَّد العودة الى أحضان الأرض، بل وجد سيّد قطب ضالته في الدراسات الاجتماعية والقرآنية التي اتجه إليها بعد فترة من الضياع الفكري والصراع النفسي بين التيارات الثقافية الغربية التي وقع فيها الكثيرين من المبتعثين للخراج، فعاد سيد قطب من الولايات المتحدة إلى مصر للعمل في مكتب وزير المعارف الذي تركه بعد أقل من شهر.
تحوّل سيّد قطب ..
تعرّض سيّد قطب لحادثين قال إنَّهما سببا تحوله إلى الاتجاه الاسلامي، حيث يقول انه كان مستلقيا في يوم (13) شباط عام (1949م) فوق سريره في إحدى مستشفيات أمريكا، فيرى معالم الزينة وأنوار الكهرباء الملونة وألوان الموسيقى الغربية والرقصات، وتساءل ما هذا العيد الذي أنتم فيه؟ فقالوا: اليوم قتل عدو النصرانية في الشرق، اليوم قتل حسن البنا، وقد كانت هذه الحادثة كفيلة أن تهزه من أعماقه، من حسن البنا هذا الذي تحتفل دولة عظمى مثل أمريكا بمقتله ؟؟
أمَّا الحادثة الثانية: فقد حصلت في بيت مدير المخابرات البريطاني في أمريكا، إذ كانت السفارات الغربية تتسابق في رمي شباكها لاصطياد الطلاب الشرقيين لتجنيدهم ويقسموا العهد على خدمتها، فدعاه مدير المخابرات البريطاني إلى بيته ، يقول قطب: (استدعى انتباهي أمران: الأول: إنَّ هذا البريطاني يسمى أبناءه بأسماء المسلمين، محمد وعلي وأحمد...، والثاني وجدت لديه كتاب العدالة الاجتماعية، وهو يعمل في ترجمته ، وهي النسخة الثانية في أمريكا إذ الأولى لدى وصلتني من أخي محمد قطب).
وبدأ الحديث عن أحوال الشرق وما ينتظره من مستقبل وأحداث ، ويعرج على مصر ليستفيض في الحديث عنها وتأخذ جماعة الإخوان المسلمين القسط الوافر من الحديث، ويعرض علي تقارير مفصلة عن نشاط الجماعة وعن تحركات البنا وخطبه منذ أن كانت الجماعة ستة في الإسماعيلية حتى سنة (1949م)، تفصيلات تؤكِّد أنَّهم قد سخروا أجهزة وأموال تتبع نشاط الإخوان وحركاتهم وسكناتهم ورصدوا لذلك أموالاً ورجالاً خوفاً من هذا الغول البشع -الإسلام- وعقب البريطاني قائلا: (إذا قدر ونجحت حركة الإخوان في استلام حكم مصر فلن تتقدم مصر أبدا ، وسيحولون بعقليتهم المتخلفة بين الحضارة الغربية، وستقف عقلياتهم المتحجرة دون تطور الشعب والأرض، ثم قال: ونحن نأمل من الشباب المتعلمين أمثالك ألا يمكنوا هؤلاء من الوصول إلى سدة الحكم).
يقول سيّد: قلت في نفسي (الآن حصحص الحق)، وأيقنت أنَّ هذه الجماعة على الحق المبين، ولم يبق لي عذر عند الله إن لم أتبعها، فهذه أمريكا ترقص على جمجمة البنا، وهذه بريطانيا تسخر أجهزتها وأقلام مخابراتها -حتى داخل أمريكا- لمحاربة الإخوان، وبمجرد أن وطأت قدماه أرض مصر اتصل بالأستاذ الهضيبي المرشد، وعرض عليه أن يقبله جنديا في صف دعوة الإسلام، فيرحب به الأستاذ الهضيبي، ويبدأ الأستاذ سيّد منذ تلك اللحظة جهاده المنظم المركز .