علمانية أردوغان .. الدّواء فيه سمٌّ قاتل ( 1-2 )

الرئيسية » بصائر الفكر » علمانية أردوغان .. الدّواء فيه سمٌّ قاتل ( 1-2 )
alt

تسبَّبت التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً خلال زيارته للقاهرة حول تشجيعه للمصريين بتطبيق العلمانية في حالة من الجدل بين الإسلاميين الذين رأى بعضهم في دعوته تبشيرا بهذا المنهج ، فيما ذهب آخرون إلى اعتبار ذلك مجرّد محاولة لمخاطبة تركيا التي شاهدت الاستقبال الإسلامي الحاشد له في القاهرة، وكأنه يحاول أن ينفي عن نفسه تهمه الانتماء إلى المرجعية الإسلامية .

بعض الحركات الإسلامية تعاملت مع التصريحات بتشنج واعتبرته خروجاً غير مقبولا عن النص، فلا يجوز أن يبشر أردوغان بالعلمانية  داخل البلدان الإسلامية التي تسعى بشغف وبصدر مفتوح الآن إلى البحث إدارة المنهج الإسلامي لشؤون البلاد، خاصة وأن تصريحاته جاءت في وقت احتدم فيه الجدال داخل مصر عقب نجاح ثورة 25 يناير  بين أصحاب المنهج الإسلامي وبين العلمانيين حول طبيعة الدولة الجديدة المنتظرة، فيما رأى فريق آخر أنَّ تصريحات أردوغان مجرّد زلة لسان أو محاولة للالتفاف على الفخ الذي نصبه الإعلام المصري" ذو الطبيعة العلمانية  والليبرالية "  للرّجل؛ إذ خيّر بين أمرين؛ إمَّا أن يبشّر بالفكر الإسلامي الذي يعمل به حزبه منذ 8 سنوات داخل تركيا،  وحينها سيواجه مشكلات كبيرة ربما تصل إلى حدّ الزّج به في السجن لمخالفته الدستور التركي الذي يؤمن بعلمانية الدولة، والخيار الثاني  أن يدافع عن العلمانية  لكن في الشق المتعلق بالاقتصاد وإدارة الحكومة بعيداً  على أن يتهرب عن الحديث عن الشقّ الديني في الموضوع .

العلمانية والتقدّم !   ..

زاد من الجدل الذي خلقه أردوغان احتفاء العلمانيين المناهضين للمنهج الإسلامي بهذا الطرح، واستخدامها في حالة الصراع السياسي المحتدم بين أبناء المنهج الإسلامي من ناحية، واليسار والليبراليين من ناحية أخرى، فحاولوا أن يقرنوا العلمانية بالتقدّم والديمقراطية، وأنَّ ما دون ذلك من دعوات إسلامية تدفع نحو التخلّف، وهو ما جعل كاتب كبير بحجم فهمي هويدي يكتب في القضية واضعاً العلمانية في نصابها الحقيقي بعد أن ذهب البعض إلى الادّعاء بأنَّ العلمانية هي سبب النمو التركي، حيث استبعد تماماً أن يكون بزوغ أردوغان  وما بلغته بلاده من علوّ ونهضة من ثمرات العلمانية المطبقة هناك  بسبب العلمانية >

قال هويدي: إنَّ الزّعم بالربط التلقائي والحتمي بين العلمانية وبين الحرية والتقدّم يشكّل مغالطة لا أصل لها في علم السياسة أو تاريخ النظم السياسية، فليست هناك علاقة حتمية أو ضرورية بينها وبين الديمقراطية، فأي باحث نزيه لا يستطيع أن ينسب إلى العلمانية ما حققته تركيا من نهضة وعلو في زماننا؛ لأنَّ إنجازاتها تنسب إلى الديمقراطية بالدّرجة الأولى. بل إنَّ العلمانية كما يقول هويدي قادت أردوغان إلى السجن الذي قضى فيه أربعة أشهر بزعم المساس بها، لكن الديمقراطية هي التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة التي في ظلها حدثت النقلة الكبيرة لتركيا، وتحوّلت إلى قوّة اقتصادية صاعدة وقوّة سياسية لها حضورها المؤثر والفاعل في أهم ملفات المنطقة.العلمانية  قادت أردوغان إلى السجن الذي قضى فيه أربعة أشهر بزعم المساس بها

ولعلَّ اللغط الذي أثير حول علمانية أردوغان يعود إلى سببين؛ الأوَّل المناخ العلماني الذي هيمن على الساحة  التركية، والتي زجّت بصديق أردوغان ومعلّمه بالسجن  " أربكان "، بل ووصل إلى درجة الزّج بأردوغان نفسه في السجن عندما تحدَّث عن الإسلام، وكان حينها عمدة اسطنبول، إضافة إلى أنَّ مفهوم العلمانية الذي يحاول أردوغان أن يتأقلم  ويتصالح معه حيث يسعى لقبوله، مع تصدير صورة مغايره لما هو معهود عنها خاصة في الجزء الخاص بكونها فصل الدين عن الدولة؛ إذ حاول أن يؤكّد خلال حضوره في مصر أنَّ الدستور التركي يعرف العلمانية بأنَّها تتعامل مع أفراد الشعب على مسافة متساوية من جميع الأديان، وأنَّ الدولة العلمانية لا تنشر اللا دينية  داعياً الشعب المصري ألا يكون قلقاً من العلمانية، مشيراً إلى أنَّ الدولة العلمانية لا تعنى دولة اللادين، متمنياً وجود دولة مدنية تقوم على احترام جميع الأديان والشرائح في المجتمع في مصر، وهو المعنى نفسه الذي يؤكّد عليه الإسلام، إذ يؤكِّد الإسلام على المساواة في الحقوق بين جميع أبناء الدولة الواحدة.

وهذا المفهوم الجديد للعلمانية الذي يحاول أردوغان أن يعرضه كحل وسط  يختلف تماماً عن العلمانية المتجذرة في تركيا، حيث ينكر دعاتها  البعث والنشور، وهو التيار الذي يقاومه أردوغان منذ وصوله إلى السلطة، ومن ثمَّ وسط هذا المشهد الذي تتغوّل فيه العلمانية في تركيا والتي يحاكم فيه كل من ينتقدها أو لا يؤمن بها أو حتى يتحدّث عن المنهج الإسلامي كبديل  تأتي تصريحات أردوغان في مصر التي قال فيها  إنَّ تركيا  دولة علمانية وأنا مسلم،  بل استشهد خلال محاضرته في الأوبرا  7 مرات بالقرآن الكريم، ومن ثمَّ لابد من التعاطي معه وسط هذه المعطيات جميعها، وأن يكون التقييم موضوعياً مع الوضع في الاعتبار أنَّ لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة، وأنَّ أردوغان ليس منزّهاً عن الخطأ، وليس نبيّاً مرسلاً من الله ليس له أخطاء.

ولعلَّ مفهوم العلمانية الجديد الذي يحاول أردوغان تصديره إلى المنطقة ويختلف بالقطع عن المفهوم التقليدي المتعارف عليه في عالمنا العربي والإسلام يستلزم منا أن نعيد قراءة مفهوم العلمانية ومعرفة ظروف نشأتها.

مفهوم العلمانية  ونشأتها  ..

العلمانية باختصار هي فصل الدّين عن الدّولة  أو عن الحياة، و لا تعني كما يظن البعض أنها إنكار الدين، فذلك هو الإلحاد أو الكفر، ولكنَّها تعني حصر دائرته وسلطانه داخل جدران دور العبادة، فلا يتعداها إلى المجتمع أو الدَّولة.
العلمانية فكر نشأ في أحضان أوربا؛  حيث ولد كمحاولة للخروج من قيد الظلام والطغيان الذي سادها في القرون الوسطى
والعلمانية فكر نشأ في أحضان أوربا؛  حيث ولد كمحاولة للخروج من قيد الظلام والطغيان الذي سادها في القرون الوسطى جرّاء هيمنة الكنيسة على المجتمع سياسياً واجتماعياً ودينياً واقتصادياً وفكرياً ، وقد تسببت هذه الهيمنة في إصابة أوربا  أحقاباً طويلة بالفساد والجهل والتخلّف، وذلك بعد أن أعطى البابوات العصمة من الخطأ بقرار من مجمع روما المنعقد عام 1869م، وصار للبابا حق الطّاعة العمياء،  وأخذت المجامع المقدسة تحل ما رأته حلالاً، وتحرِّم ما رأته حراماً.

وظهر ما عرف باسم صكوك الغفران ، ففي عام 1215م، صدر عن مجمع روما قرار خطير يعطي البابا حقّ غفران الذنوب، وسادت  حياة الرهبنة التي تقوم على ركيزة أنَّ عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلاَّ بإنكار الذَّات وقتل كلّ الميول الفطرية والرَّغبات الطبيعية والاحتقار البالغ للجسد وشهواته لاسيّما الشهوة الجنسية، وتمارس حياة الرهبنة داخل الأديرة بالانقطاع عن الحياة العامة ونتيجة مصادمتها الفطرة الطبيعية للإنسان شهدت الأديرة أحط ألوان الفساد، ثمَّ كانت محاكم التفتيش التي بدأت في أسبانيا عام 1478م، حين أراد البابا جريجوري التّاسع محاكمة الهراطقة مخالفي الكنيسة وبواسطتها ألقى آلاف العلماء ودعاة التنوير في السجون .

كل هذه القيود دفعت أوربا إلى كسرها والانطلاق في عالم ليس فيه حجر على العقول والأفكار والحريات بعيداً عن الخرافة والدّجل آخذاً بأساليب البحث العلمي، متخذة نزعة متطرّفة ضدَّ كلِّ ما هو روحاني أو ديني،  فظهرت العلمانية في كلّ المجالات؛ في السياسة والعلم والأخلاق والفن والأدب، وتقدَّمت أوربا تقدّماً مادياً وصناعياً، ولكنَّها فشلت وجدانياً وأخلاقياً، ولم ينجح الفلاسفة وعلماء الاجتماع في سدّ النقص الذي أحدثه غياب الدِّين وفقدت أوربا السّعادة الحقيقة والاستقرار النفسي والحب والوئام، ولم تتغيّر إلاَّ صورة المعاناة .
وبعيداً عن الفكر التآمري إلاَّ أنَّه دائماً ما يظهر اليهود في كل ما هو ضد الدين؛ إذ يقول الكاتب الأمريكي "وليام غاي كار" : (لقد  كان اليهود وراء فكرة فصل الدين عن الدولة). 
ويؤكّد ذلك ما جاء في  " بروتوكولات حكماء صهيوني "؛ حيث قالوا: (لقد بدأت ثمار جهودنا تؤتي أكلها، إذ أخذ ذلك النفوذ الديني العظيم على الناس يتضاءل رويداً رويداً، وحلَّت حرية الضَّمير محله في كلِّ مكان، ثمَّ  لم يمض غير سنوات معدودات حتّى نشهد احتضار  المسيحية، ولن تتطلب الدّيانات الأخرى إلاَّ اليسير من  الجهد حتى تتبع المسيحية في الانهيار،  وسنحصر الدّين ورجاله في أضيق نطاق، حتَّى تزول عنه الهيبة، ونسقط الحرمة فتفقد تعاليمهم الأثر الطيّب الذي كانت تجده من قبل).

{youtube}ZUU9SCkW6Rs{/youtube}

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

ماذا حدث في العشر سنوات الأخيرة.. وماذا سيحدث في العشر القادمة؟!

للدكتور محمود أمين كتاب بعنوان (ماذا حدث للمصريين)، يتحدث فيه عن التغيّرات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، …