"الجماعة الإسلامية في لبنان" اسم له بريقه في عالم الدَّعوة والسِّياسة في هذا البلد الذي لم يهنأ منذ زمن بالاستقرار، فطوال عقوده الأخيرة شهد العديد من الحروب والصّراعات الأهلية التي اتسمت – في الغالب - بطابع مذهبي.. ووسط هذه الأمواج العاتية، كانت الجماعة بصدد تحدّ كبير، فهي تحمل مشروعاً إسلامياً يتبنى المقاومة، وتقع عليها مسؤولية الحفاظ على حقوق طائفتها - وهي التي تعيش في بلدد تتنازعه الطوائف والمذاهب –، وفي الوقت نفسه عليها المحافظة على استقلاليتها وعدم الذوبان في مشاريع سياسية وطائفية تملك الكثير من المقدرات.
وتعدُّ الجماعة الإسلامية في لبنان كبرى الحركات الإسلامية في الساحة السنية، تمتلك مشروعاً سياسياً، وتنتشر في معظم المناطق "السنية" في لبنان، لاسيّما في شمال لبنان، بمراكزها الدَّعوية ومؤسساتها المتخصصة (التربوية والطبية والطلابية والإغاثية والنسائية والشبابية).
منطلقات فكرية
تؤمن الجماعة الإسلامية في لبنان بوسطية الإسلام ونبذ الفرقة والمذهبية، وتحرص على تحقيق التواصل بين المذاهب المختلفة من أجل تحقيق المصلحة العامة، حيث ترى الجماعة ان الطائفية في لبنان مأزق تورّط فيه اللبنانيّون وكانت سبب الكثير من الصراعات المسلحة، وهو ما جعلها تطرح منذ نشأتها "إلغاء الطّائفيّة السّياسيّة" من أجل تخفيف الاحتقان الطّائفي الذي يغذّيه رجال السّياسة من حين لآخر.
وتنبذ الجماعة الإسلامية العنف في ممارساتها، إلاَّ في مواجهة العدوّ الصهيوني الذي كان يحتل جزءاً كبيراً من الأراضي اللبنانية، تمّ تحريره، وبقيت منطقة مزارع شبعا. أمّا في ميادين الأداء الدّعوي أو السّياسي، فإن الجماعة تعتمد الدَّعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
وترى الجماعة أنَّ العمل السياسي هو انعكاس لفكرها ومشروعها الذي تعمل لتحقيقه، وليس مجرّد ردّات أفعال أو مجاراة للواقع السياسي اليومي الذي نعيش.
نشأة العمل الإسلامي..
شكلت مؤلفات حسن البنا وسيّد قطب ومصطفى السباعي، وما جرى تعريبه ونشره من كتب أبي الأعلى المودودي في باكستان، وإصدارات الإخوان المسلمين كمجلة "الدّعوة" و"المسلمون" من مصر و"الشهاب" من سوريا و"الكفاح الإسلامي" من الأردن.. تياراً فكرياً وسياسياً إسلامياً في مختلف المناطق اللبنانية. وقد ساعد على بلورة هذا التيار في لبنان لجوء الدكتور مصطفى السباعي (المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا) إلى لبنان عام 1952 خلال فترة حكم العقيد أديب الشيشكلي في سوريا
وتأكدت صلات هذا التيار الإسلامي اللبناني الناشئ بحركة الإخوان المسلمين خلال زيارة المرشد العام للإخوان في مصر (حسن الهضيبي) للبلاد عام 1953
نشأة الجماعة وأهدافها.. عام 1964 برزت "الجماعة الإسلامية" بشكل رسمي، وافتتحت مركزها في بيروت
عام 1964 برزت "الجماعة الإسلامية" بشكل رسمي، وافتتحت مركزها في بيروت، وأصدرت مجلة "الشهاب" في 1 كانون الأول 1966، وكان أول أمين عام للجماعة هو الرَّاحل فتحي يكن، إضافة إلى بقية المؤسسين: فايز إيعالي، محمد كريمة، محمد دريعي، وإبراهيم المصري.
لخّصت الجماعة الإسلامية في لبنان أهدافها في عدَّة محاور، هي: تبليغ دعوة الإسلام إلى النّاس نقيّة صافية متصلة بالعصر ومشكلاته، تنظيم الذين استجابوا للدَّعوة إلى الإسلام وتثقيفهم به وتأهيلهم ليكونوا الطليعة، فضلاً عن مواجهة تحدّي الحضارة الغربية والسعي إلى بناء مجتمع جديد يكون الإسلام فيه هو الميزان بتصرفات الأفراد، والسعي لجمع شمل المذاهب الإسلامية بالرجوع إلى الأصول الإسلامية.
الانتخابات ومرحلة الانتشار..
في بداية السبعينات كانت الجماعة منتشرة في مختلف المناطق الإسلامية (السنّية) اللبنانية، وانشغلت الجماعة ببناء الهيكلية التنظيمية، فكان لها مكاتب مركزية تعنى بالإشراف على المكاتب المحلية، فانشغلت بالتربية والتأهيل والعمل الدَّعوي والطلابي والنسائي والشبابي.
كما اهتمت الجماعة بالشأن السياسي، فقد كانت تتابع القضايا السياسية – اللبنانية والعالمية – من خلال توعية عناصرها وعبر وسائل إعلامها، لكنها كانت تكتفي بالموقف السياسي دون الدخول في الممارسة اليومية أو المشاركة في الانتخابات.
وفي عام 1972 باشرت الجماعة أول تجربة انتخابية نيابية من خلال ترشيح المحامي محمد علي ضناوي في مدينة طرابلس، وكانت الغاية من عملية الترشيح ممارسة اتصال جماهيري واسع بالناس عبر طرح وجهة النظر الإسلامية في الأحداث الجارية، وكان واضحاً لمؤسسات الجماعة أنَّ الترشيح لن يتعدّى هذا الإطار إلى التخطيط لعمل سياسي برلماني.
حقبة السبعينيات .. حقبة السبعينيات كان مرحلة تحوّل في نضال وجهاد الجماعة الإسلامية في لبنان
نستطيع أن نقول: إنَّ حقبة السبعينيات كان مرحلة تحوّل في نضال وجهاد الجماعة الإسلامية في لبنان، ففي عام 1975 بدأت الحرب اللبنانية، وتفاعلت معها الجماعة بتشكيل بنية عسكرية تولّت الدفاع عن المناطق الوطنية والإسلامية عبر تنظيم "المجاهدون"، وكان لهذا التنظيم وجود عسكري في كل من طرابلس والشمال، ثمَّ في بيروت، وفي صيدا أواخر عام 1976، وبعد انتهاء حرب السنتين سلمت الجماعة مراكزها وأسلحتها الثقيلة في الشمال وشرق صيدا لقوات الردع العربية، كما أغلقت مراكزها العسكرية في بيروت.
وعقب انتهاء الحرب تشكلت قناعة لدى الجماعة أنه لا بد من إنشاء مؤسسات متخصصة ترعى الأنشطة الإسلامية غير السياسية. فأنشأت جمعيات ومؤسسات متخصصة على امتداد الساحة اللبنانية تلبية لحاجات الناس في غياب الدولة وخدماتها، واستكمالاً لمشروع الجماعة فقد أقامت مؤسسات تربوية وتعليمية، وأنشأت معاهد ورياض أطفال، وأخرى طبية واجتماعية عنيت بالخدمات العامة وإغاثة المنكوبين خلال الأزمات، ونشرت عدداً كبيراً من المستوصفات والمراكز الطبية، ورابطة للطلاب المسلمين لها مجلتها وأنشطتها، وجمعية نسائية اجتماعية، ومؤسسات إعلامية، وعدداً من الجمعيات الخيرية في مختلف المناطق اللبنانية.
حقبة الثمانينيات..
تميّزت هذه الحقبة بانطلاقة واسعة للحركة الإسلامية، وقد ساهمت عدة أحداث في هذه الانطلاقة، منها: نجاح الفصائل الإسلامية الأفغانية في إنهاك قوات الاحتلال مع ما واكب ذلك من حركة استنهاض إسلامية جهادية، وتحوّل الحركة الإسلامية في فلسطين من العمل الدَّعوي التربوي والاجتماعي، إلى تشكيل "حركة المقاومة الإسلامية - حماس"، ثم اندلاع الانتفاضة الاولى.. مما جعل الحركة الاسلامية على مستوى العالم في موقع متقدّم على التيارات القومية والماركسية التي بدات بالتراجع.
وعندما بدأ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 كان المشروع السياسي للجماعة الإسلامية قد نضج، وكانت بنيتها التنظيمية قد استكملت عناصرها.. وكان لأول صدام مسلح خاضه اثنان من شباب الجماعة في صيدا مع دورية للعملاء يوم 15 أيلول 1982 دور في إلهاب مشاعر الناس، وأدّى إلى سلسلة من المواجهات مع قوات الاحتلال.
وتتابعت العمليات الجهادية تحت اسم "قوات الفجر" لتشكل بعد ذلك – متكاملة مع بقية عمليات المقاومة الإسلامية - الملحمة الجهادية التي أنجزت تحرير معظم الأراضي اللبنانية المحتلة في 25 أيار عام 2000.
وبات الصّراع مع العدوّ الصهيوني عنصراً أساساً في أدبيات الجماعة وفكرها السياسي وحركتها على الأرض. كما أن مشاركة عناصر من الجماعة في عمليات المقاومة الإسلامية حتى بعد انسحاب قوات العدوّ من صيدا كانت بارزة، حيث كانت الجماعة تسيطر على عدد من المواقع والقرى المحررة في مواجهة قوات جيش لبنان الجنوبي.
وبهذا، فقد أصبحت الجماعة الإسلامية عنصراً أساساً في الشأن اللبناني خاصة بعد أن أطلقت مشروعها السياسي الذي اعتبر أن مواجهة العدوّ الصهيوني ستبقى ملازمة للعمل السياسي اللبناني، وأنَّ لبنان بحكم موقعه محكوم بهذه الخصوصية، وأن الحركة الإسلامية ينبغي أن تعتبر ذلك قدرها وواجبها، وأن مشروعها الاسلامي يتحقق بقدر ما ينجز في هذا الميدان من أهداف.
ورغم تعرّض الحركة الإسلامية في العالم العربي لموجات من القمع والتنكيل كان أبرزها في مصر وفي سوريا.. لكن الجماعة تجنّبت الدخول في صراعات جانبية مع حلفاء تلك الأنظمة في لبنان، كما تجنّبت الصّراع الفكري والمذهبي مع التيارات التي أطرت نفسها تحت عناوين صوفية أو سلفية، واحتفظت بعلاقات طيبة مع الجميع. وتدعو الجماعة إلى نظرية التكامل في العمل الإسلامي، والتعاون والتنسيق بين كل العاملين على الساحة الإسلامية.
إطلاق الوثيقة السياسية
بتاريخ 20 حزيران (يونيو) 2010م عقدت الجماعة الإسلامية مؤتمرها العام، شاركت فيه قيادات الجماعة المركزية والمناطقية. وقد تناولت جلسات المؤتمر تطور عمل الجماعة في إطار الواقع العام وأثر المتغيرات الداخلية والخارجية، كما ناقش المؤتمرون الرؤية السياسيّة للجماعة المعدّة من مكتبها السياسي، التي تضمنت المنطلقات الأساسية للعمل السياسي، إضافةً إلى تحديد الرؤى السياسية لأهم العناوين الداخلية والخارجية.
ولقد خلص المجتمعون في نقاشهم للرؤية السياسية للجماعة الإسلامية إلى اعتماد وثيقة، حددت الضوابط الشرعية للمشاركة السياسية والرؤية السياسية للجماعة تجاه الملفات التالية:
النظام السياسي في لبنان - تطبيق الشريعة - العيش المشترك - العلاقات في الساحة اللبنانية - القضية الفلسطينية ودور المقاومة - الواقع الفلسطيني في لبنان - العلاقات العربية والدولية.
القضية الفلسطينية.. لعب القرب الجغرافي بين لبنان وفلسطين دوراً في بقاء القضية الفسطينية حية لدى الجماعة الإسلامية
لعب القرب الجغرافي بين لبنان وفلسطين دوراً في بقاء القضية الفسطينية حية لدى الجماعة الإسلامية، بما أهّلها أن تلعب دوراً ابوياً وراعياً للقضية الفلسطينية. فقد آمّنت منذ وقت مبكر بضرورة تعبئة الأمّة وتوعيتها بالخطر الصهيوني الذي يتهدّدها بكلّ مقوّماتها ووجودها، والعمل على بناء المجتمع المقاوم بالفكر والممارسة، وتدعيم مسيرة الجهاد والمقاومة بكلّ الوسائل الممكنة.
كما تبنّت الجماعة قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ولا سيما تمتّعهم بحقّ العودة، وإقرار الحقوق المدنية والإنسانية للشعب الفلسطيني المشرّد، ورفع الظلم والحرمان عنه، كما جعلت في مقدمة اهتماماتها مواجهة المشروع الصهيوني من خلال التنسيق الكامل مع (حركة حماس) ودعم كلّ القوى المجاهدة، والحرص على إبقاء الساحة اللبنانية كساحة مواجهة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
ثوابت على حساب المصالح
بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005، عاش لبنان اصطفافاً سياسياً حادّاً، بين فريق مؤيد لسوريا (8 آذار) وفريق معارض (14 آذار).. تعرّض لبنان خلال تلك المرحلة لسلسلة أحداث أمنيّة، ومرّ بمحطات شلل حكومي تام وصراعات مذهبية كادت أن تشعل حرباً أهلية جديدة. وكانت الجماعة أمام تحدّ كبير، في الحفاظ على ثوابتها بتبنّي مشروع المقاومة، ورفض توجيه سلاح المقاومة للداخل اللبناني، فضلاً عن رفضها لسياسة الاغتيالات وسلب حقوق طائفة المسلمين السنّة في لبنان الذين يشكلون حوالي 33.6%. كما أنَّها رفضت لغة التخوين في الأداء السياسي والارتهان للخارج.
وهذه العناوين توزعت بين فريقي السياسية (8 و 14 آذار)، وهذا ما جعلها أحياناً في موقف غير واضح أمام الرأي العام، لكنّها كانت دائماً تؤكّد أنَّ بوصلتها في تحديد مواقفها هي ثوابتها الفكرية والوطنية وليس هذا الفريق السياسي أو ذاك.