التميّز في الاختصاص عند الصَّحابة

الرئيسية » بصائر الفكر » التميّز في الاختصاص عند الصَّحابة
alt

في تعريف الصَّحابي ذكر أهلُ العلم أنَّه كلُّ مسلم لَقِيَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مؤمناً به، ومات على الإسلام، وقد بلغ عدد الصَّحابة في قولٍ للمحدّث أبي زُرْعَة الرَّازي أكثر مئة ألف صحابي، يقول:( قُبِضَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن مئة ألف وأربعة عشر ألفاً من الصَّحابة ممَّن روى عنه وسَمِعَ منه).

هؤلاء الصَّحابة الكرام رضوان الله عليهم آمنوا برسول الله صلَّى الله عليه وسلّم وشهدوا المشاهد معه، ودافعوا عن رسالة الإسلام، وحافظوا عليها نقيّة طاهرة، وبلّغوها كما سمعوها، كلٌّ مجاله وميدانه وتخصّصه، وطالعتنا كتب التراجم والسير أنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم كانوا متفاوتين في درجات الفهم، وميادين العطاء، ودروب الاختصاص، ولاشكَّ في ذلك، فكتاب الله يؤكّد في آياته  على هذا المعنى، قال الله تعالى:{ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}. (النساء:95)، وقال تعالى:{ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. (الحديد:10).
إنَّهم خلفاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أبو بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم، كانوا خلفاء راشدين، يتمثلون مبادئ الحاكم العادل، وأسس الحكم الرَّشيد
فمن الصَّحابة من اشتغل بالجهاد فأبلى بلاءً حسناً، ومنهم من اشتغل بالعلم فأبدع وحفظ للأمَّة مصادر دينها، ومنهم من اشتغل بالتربية والتوجيه والتعليم فساهم في إعداد الفرد والأسرة والمجتمع لتحمّل المسؤوليات، ومنهم من اشتغل بالقضاء والإفتاء، فحفظ الأمن وسلامة الأفراد والجماعات من الزَّلل والخطأ، ومنهم من اشتغل بالتجارة ليعزّز اقتصاد المسلمين ويؤمّن لهم أمنهم في الغذاء والكساء وغيرهما..

ولا يعيب صاحبُ تخصُّصٍ صاحبَ تخصِّصٍ آخرَ ما دام الجميعُ يعملون لمشروع وهدف واحد، بل تراه يحترم توجّه الآخرين إلى تخصّصات غير التخصّص الذي هو فيه ويتقنه، وقد عِيب على أبي هريرة رضي الله عنه كثرة روايته لحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: (إنَّ النَّاس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدَّثت حديثاً، ثمَّ تلا قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ... إلى قوله : {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. (البقرة:159-160)، ثمَّ قال: إنَّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وكنت ألزم رسول الله، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا الحديث). (صحيح البخاري).

إذاً هو الاختصاص، فقد تميّز الصَّحابة رضي الله عنهم في تخصصاتهم المتعدّدة والمتنوعة، وكانوا مثالاً يُحتذى في التزام الصِّدق والدّقة والإبداع والإتقان في شتى الفنون والأعمال، ممَّا يصعب حصرها أو جمعها، وهي مبثوثة في كتب الحديث النبوي والسيرة والتراجم، لكنَّنا نسعى إليها لنلتقط من معينها ملامح التميّز في الشخصية الإسلامية المثلى، لتكون لنا وجيل اليوم دليلاً وقدوة.

بين أيدينا في هذه الموضوع حديثٌ صحيحٌ، يضع فيه النبيُّ المعصوم عليه الصَّلاة والسَّلام أبرز التخصّصات التي أتقنها صحابته الكرام في عصرهم، وأدقَّ الفنون التي أبدعوا فيها، وأميز الصفات التي تحلّوا بها، ليشكّل منظومة  متكاملة من التميّز، تنتظر منّا أن نقتبس من نورهم، وأن نقيس أعمالهم معتبرين، قال الله تعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}. (الحشر:2).
إنَّ هذا الحديث النبوي الشريف معلم من معالم التربية الإسلامية، ويؤسس لمفهوم الحرية العلمية في تعدّد الاختصاصات وتنوّع الكفاءات في شتى المجالات لتصبّ كلها في خدمة الاكتفاء الذاتي للمجتمع والأمَّة الإسلامية
فعن أنس قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه و سلَّم:  ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإنَّ لكلِّ أمَّةٍ أميناً، ألا وإنَّ أمينَ هذه الأمَّة أبو عبيدة بن الجرَّاح)).

(هذا الحديث أخرجه ابن حبَّان في صحيحه وأحمد في مسنده، والطبراني في معجمه الأوسط، والترمذي وابن ماجه في سننهما).

الإمام العادل.. بين الرَّحمة والشدَّة والحياء ..

إنَّهم خلفاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أبو بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم، كانوا خلفاء راشدين، يتمثلون مبادئ الحاكم العادل، وأسس الحكم الرَّشيد، فكل واحدٍ منهم كان له تميّز في شخصيته الفذَّة، التي كان لها دورٌ في حماية المشروع الإسلامي في مراحله الأولى والنهوض به بعد وفاة مؤسِّسه صلَّى الله عليه وسلَّم.

أولهم أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه فأكثرهم رحمة بالأمَّة، فالرَّحمة دليل القيادة وسياسة النَّاس نحو الالتزام بتعاليم الإسلام وتطبيق أحكامه، كان رضي الله عنه محافظاً على حقوق الإنسان، واعياً لها، يتفقَّد الرَّعيَّة ليلاً، ويواسي المساكين، ويعتق العبيد رجالاً ونساءً، ويفتديهم بماله وجاهه، وقد عيّره أبوه ذات مرَّة بمساعدة هؤلاء الضعفاء، وتمنَّى عليه أن يساعد الأقوياء ليمنعوه من الأعداء، فردَّ عليه قائلاً: (يا أبتِ، إنِّي أريد ما أريد لله عزَّ وجل).

وثانيهم الفاروق عمر رضي الله عنه، فأكثرهم شدَّة لأمر الله ومحارمه وأحكامه، فشدَّة الصَّرامة وقوَّتها، وعظمة الشَّهامة وجلالها مطلوبتان، بل ضروريتان في القيادة الرَّاشدة، حيث ظهر ذلك جليّاً في شخصيته رضي الله عنه، فمن أبرز ملامحها أنَّه ينظر إلى الخلافة على أنَّها ابتلاء ابتلي به سيحاسب على أداء حقّه، ويتطّلب منه أن يباشر حمل أعباء الدَّولة، وأن يولي على الرَّعية التي غابت عنه أفضل الأمراء وأكفأهم، ويرى أنَّ مراقبة هؤلاء العمال والولاة فرض لا فِكاك منه، فمن أحسن منهم زاده إحساناً، ومن أساء عاقبه ونكّل به، ذلك أنَّ شدَّة عمر التي هابها الناس سيخلصها لهم ليناً ورحمة، وسينصب لهم ميزان العدل.

أمَّا عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، ففي سيرته القدوة المثلى لحياء وعدل الحاكم والإمام العادل، حيث كان يحدِّث النَّاس ويستخبرهم عن أسعارهم وأخبارهم ومرضاهم، وكان يَلِي وضوء الليل بنفسه، فقيل له: لو أمرت بعضَ الخدم لكفاك، فقال: (اللَّيل لهم يستريحون فيه). وقد شهد له الرسُّول عليه الصَّلاة والسَّلام بخلق الحياء، بقوله لعائشة رضي الله عنها: ((إن عثمان رجل حييٌّ، وإنِّي خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليَّ في حاجته))، وقوله : ((ألا استحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة)). (رواه مسلم).

إبداع التلاوة عنوان التميّز ..

إنَّ أُبيَّ بنَ كعب رضي الله عنه كان حريصاً على اتّباع القراءة الصَّحيحة للقرآن الكريم عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فسمع ذات مرَّة رجلاً يقرأ سورة بخلاف ما أقرأه إيَّاها رسول الله، فقال له: من أقرأك هذه السُّورة ؟ فقال: رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال أُبي : (لا تفارقني حتى آتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، وذلك لحرصه الشديد على سلامة قراءة كتاب الله عزّ وجل، وهو الذي ساهم في جمع القرآن الكريم وتعليمه وإقرائه بعد وفاة النّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، ويظهر تميّزه عندما وصل الصحابة في جمعهم للقرآن عند قوله تعالى : في سورة براءة: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ظنّوا أنَّ هذا آخر ما أنزل فقال أبي: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أقرأني بعد هذا آيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} إلى آخر السورة، وغيرهما الكثير من مواقف إبداعه وتفنّنه في اختصاصه رضي الله عنه.

معالم حفظ الميراث ..

خصَّ رسول الله صلَّى عليه وسلَّم هذا العلم بالحديث، لأنّه ذو أهمية في تطبيق أحكام الله سبحانه في الميراث، حيث يقول عليه الصَّلاة والسَّلام : ((ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)). (متفق عليه)، وميَّز زيد بن ثابت عن بقية الصحابة بهذا العلم، لأنَّه كان حافظاً لكتاب الله عالماً بأحكامه، قال عمر بن الخطَّاب: (أمَّا إنَّ نبيكم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين). (رواه ابن ماجه).
ولذلك فإنَّ مذهب زيد في الفرائض مرجَّح  في المسائل الخلافية غالباً، وهو ما اعتمده الإمام الشافعي رحمه الله.

عن الحلال والحرام .. فتِّش عن معاذ ..

كان الصَّحابي  الجليل معاذ بن جبل أحد الذين يفتون في عهد الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم، وهو الذي نجح في أداء رسالة الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام في القضاء، حيث قال : ((الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله)). (رواه الترمذي وأحمد). وكان الصَّحابة رضوان الله عليهم يجتمعون حوله ليتعلَّموا منه الحلال والحرام، وقد صحَّ عن عُمر  الفاروق أنَّه قال: (من أراد الفقه، فليأْت معاذ بن جبل)، وقال عنه أيضاً: (عجزت النساء أن يلدن مثله، ولولاه لهلك عمر).

أمين سرّ الأمَّة .. ابن الجرَّاح ..

والأَمين هو الثقة الرَّضِيّ، فقد اختاره رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم في المهمّات الخاصة لإبداعه وتميّزه بقوله: ((لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين)). (رواه البخاري). وهو القائد الفذّ، والمخطّط  الاستراتيجي، حيث استطاع في برهة وجيزة أن ينظّم صفوف الجيش الإسلامي، وأن يعلن الاستعداد الكامل والجاهزية الكاملة عندما أحسَّ أنَّ الرُّوم أوشكوا على الاقتراب لمهاجمة الجيش المسلم، كما دلَّت فتوحاته بعد معركة اليرموك على أنّه قائد استراتيجي استخدم مبادئ عسكرية مهمَّة  ليحقِّق التفوّق، فاستحقَّ بجدارة لقب أمين الأمَّة.
كأنّي برسول الله صلَّى الله عليه وسلّم يحفّز أبناء أمّته إلى ضرورة التميّز في تخصصاتهم، وإبداعهم فيها وتفنّنهم في تطويرها
تحفيزٌ للإبداع والتميّز في فنون العصر ..

إنَّ هذا الحديث النبوي الشريف معلم من معالم التربية الإسلامية، ويؤسس لمفهوم الحرية العلمية في تعدّد الاختصاصات وتنوّع الكفاءات في شتى المجالات لتصبّ كلها في خدمة الاكتفاء الذاتي للمجتمع والأمَّة الإسلامية وذلك بتكاتف وتعاون الأفراد، فالجميع يعمل ويبني ويساهم، كلٌّ من موقعه، وكلٌّ حسب طاقته، وكلٌّ حسب ميوله العلمية، ورغباته الفكرية، أو قدراته المهنية.

وكأنّي برسول الله صلَّى الله عليه وسلّم يحفّز أبناء أمّته إلى ضرورة التميّز في تخصصاتهم، وإبداعهم فيها وتفنّنهم في تطويرها، ليعلن أنَّ أشهرهم في علوم الطب فلان، وأبدعهم في علوم الفيزياء فلان، وأمهرهم في فنون الفضاء والكون فلان، وإذا سألتهم عن علوم الطبيعة  يرشدوك إلى فلان، وعن علوم الكيمياء  والصيدلة يدلوك على فلان، فلا تخلو الأمَّة ورجالاتها من تخصص أو إبداع.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

كيف قاد النبي ﷺ جيشه إلى النصر؟

لم يكن النبي ﷺ قائداً عسكرياً تقليدياً تلقى تعليمه في أكاديميات الحرب، لكنه كان خير …