هلال شوال .. جدل يتجدَّد كلَّ عام

الرئيسية » بصائر العبادة والدعاة » هلال شوال .. جدل يتجدَّد كلَّ عام
alt

ربَّما لم يشهد عيد من الأعياد هذا الجدل والنقاش حول صحته من عدمها كما شهده عيد الفطر هذا العام.

فرغم إعلان السعودية المثير للجدل لرؤية الهلال، فإنَّ الجمعيات الفلكية لم تر بصحته، بل رأت أنَّه خطأ مخالف للحسابات العلمية الدقيقة، وممَّا زاد هذا الأمر حدَّة وانتشاراً، هو انتقال الخلاف، من البيانات والتصريحات، إلى الوسائل الإعلامية مرئية ومسموعة والكترونية، ممّا جّيش لكلّ من الرأيين فريقاً من المؤيّدين، وفي الوقت نفسه ، أوقع الناس في حيرة واضطراب.

فغالبية المسلمين، نأوا  بأنفسهم عن هذا الخلاف، ليحتفلوا بالعيد مع بقية المسلمين، في حين ذهب البعض إلى المطالبة بقضاء يوم من رمضان، أو حتَّى صوم يوم العيد كونَّه ليس عيداً، بل هو المتمم لشهر رمضان.

خلاف جوهري ..
يعود الخلاف بين الدول الإسلامية حول هلال رمضان وشوال وغيرها، إلى الموقف من الحسابات الفلكية، ومدى الاحتجاج بها عند معارضتها للرؤية البصرية.
تعود حقيقة الخلاف، إلى الموقف من الحسابات الفلكية، وتقديمها عند تعارضها مع الرؤية البصرية، وهذا ما تجلّى بشكل واضح في نقاش علماء الشريعة، في المجامع الفقهية، حيث ظهر هناك ثلاثة اتجاهات تتمثل بما يلي:

الاتجاه الأوَّل: ويرى أصحابه عدم الاعتداد بالحساب الفلكي مطلقاً، سواء في النفي أو الإثبات، والاكتفاء بالرّؤية البصرية، أو عبر التلسكوب، إذ أنَّ الرؤية قطعية، في حين أنَّ الحساب ظني، ولا يمكن بحال تقديم الظني على القطعي. كما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلّم علَّق الصوم والفطر على الرؤية، فقال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" ولم يعلقه على ما يصعب على المسلمين من الحساب وتقدير رؤية القمر، وهذا ما ثبت بفعله صلّى الله عليه وسلّم.

الاتجاه الثاني: وهو رأي غالبية الفقهاء، حيث حاولوا الجمع بين نصوص الشرع، وقطعية علم الفلك، كون الحساب الفلكي عندهم قطعياً لا يحتمل الخطأ، فرأوا أنَّ الشهر يثبت بالرؤية، لكن الحساب الفلكي يعدُّ دليل نفي، ففي حال رأى الحساب الفلكي عدم صحة الرؤية، فإنَّ الشهادة لا تقبل مطلقاً، وهو الذي أخذ به مجمع الفقه الإسلامي.

الاتجاه الثالث: وهو رأي بعض العلماء، حيث رأوا أنَّ الشهر يثبت بالحساب الفلكي، ولا عبرة بالرؤية البصرية، فبمجرد ولادة الهلال وخروجه عن مرحلة الاقتران مع الشمس، فإنَّ الشهر يعدُّ قد بدأ، أمَّا الرؤية فقد كانت لعدم معرفة الأمَّة بالحساب الفلكي، لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : " إنَّا أمّة أميّة، لا نكتب ولا نحسب" أمّا وإن زالت أمية الأمة في الحساب فلا مشكلة في اعتمادها عليه، خصوصاً كونه قطعياً لا يحتمل الخطأ، خلافا للرؤية البصرية التي تحتمل الكثير من الأخطاء.

ولسنا هنا لنحدد الرّأي الرّاجح من الآراء التي تقدمت، إلاَّ أنَّ الرّأي الثاني هو الرأي الذي اعتمدت عليه الكثير من الدول كمصر، والأردن، وعُمان، وغيرها من الدول، ومع ذلك، تُظهر هذه الآراء أنَّ الاختلاف بينهم هو خلاف جوهري وليس خلافاً عابراً، وهو ما يسبب هذا الجدل ليس لهذا العيد فحسب، بل لأعياد أخرى.

الرؤية والحساب الفلكي ..
قبل حلول العيد، نشر المشروع الإسلامي لرصد الأهلة، خارطة تبين مدى إمكانية رؤية الهلال في العالم ليوم التاسع والعشرين من رمضان، الموافق التاسع والعشرين من آب، حيث أظهرت عدم إمكانية الرؤية في دول العالم الإسلامي قاطبة، لمغيب القمر قبل الشمس، أو غيابه بعدها بمدَّة زمنية لا تسمح للآخرين برؤيته، إذ لا يمكن للإنسان أن يرى الهلال سواء أكان بالعين المجرّدة أو التلسكوب، بعد غروبه بعشرين دقيقة أو أقل على حد أدنى.

alt

ويظهر اللون الأحمر استحالة الرؤية لغياب القمر قبل الشمس، أمَّا الدول التي ليس لها لون، فهي يستحيل أن ترى الهلال، رغم تولده، بسبب عدم وجود وقت كاف لرؤية الهلال، وأنَّ إمكانية رؤيته تقتصر على جنوب قارة إفريقيا وأمريكا الجنوبية.

ورغم الإعلان الذي نشرته الجمعيات الفلكية في أكثر من دولة، إلاَّ أنَّ الدول كان لها أكثر من تعامل مع هذه المسألة:

- فالبعض اعتمد على ولادة الهلال ولم يشترط رؤيته، فأعلن بداية العيد يوم الثلاثاء، كما هو حال تركيا وأوروبا.

- والبعض الآخر، لم يلق أيّ اهتمام للحساب الفلكي وما نشرته الجمعيات الفلكية، لكونه نوعاً من التنجيم والظن على حسب تعبير بعضهم، في حين رأى الآخرون أنَّه لا يفيد القطع، وكان على رأس هؤلاء المجلس الأعلى للقضاء الشرعي في السعودية، ثمَّ تبعهم على رؤيتهم غالبية الدول العربية، إذ أنّها تجعل رؤية السعودية أساساً لثبوت الشهر، من باب توحيد كلمة المسلمين.

- في حين لم تراقب بعض الدول الهلال لاستحالة رؤيته في ذلك اليوم، وأعلنت أنَّ اليوم التالي هو اليوم المتمم شهر رمضان كما هو حال سلطنة عُمان.

مجرّد رأي
إنَّ من واجب الأمَّة تحقيق التكامل المعرفي بين أنواع العلوم كافة، وفي الوقت ذاته، المزاوجة بين العلم الشرعي، والعلوم الدنيوية كعلم الفلك
في الحقيقة، لا أتصوّر –شخصياً- وجود أي تعارض بين الرؤية البصرية أو عبر التلسكوب، وبين الحساب الفلكي، فليس علم الفلك تنجيماً أو خرافة، أو علم قائم على الحدس والتخمين، وربما بعض المشايخ لم يفرّقوا بين علم الفلك، كعلم له نظريات وقوانين ومسائل، وبين علم التنجيم الذي يقوم على الظن والتوقع، والاتصال بالجن وغير ذلك.

إنَّ من واجب الأمَّة تحقيق التكامل المعرفي بين أنواع العلوم كافة، وفي الوقت ذاته، المزاوجة بين العلم الشرعي، والعلوم الدنيوية كعلم الفلك، إذ أنَّ علم الفلك ليس علماً يستهان به، بل وصل إلى مراحل عالية الدقة لا تحتمل الخطأ ولو بنسب ضئيلة.

ولهذا ورغم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، علَّق بداية الشهر على الرؤية، إلاَّ أنَّ هذا لا يعني بحال أنَّ الإنسان قد لا يخطئ في رؤية الهلال، فالخطأ البشري وارد لا محالة، ولسنا منزهين عن الوقوع بأيّ خطأ، فقد يظن الرائي أنَّ ما يراه هلال الشهر، وقد يكون نجماً، أو انعكاساً لعوامل طبيعية بحتة، وهذا لا يضر بعدالة الإنسان ومصداقيته. بل إن ما يؤكد الخطأ هو عدم قدرة التلسكوبات العملاقة رؤية الهلال وهي على ارتفاع آلاف الأمتار، في حين يستطيع البعض رؤية الهلال في بعض النواحي الصحراوية، ذات المناخ المتأثر بالعوامل الطبيعية، والارتفاع المنخفض مقارنة بما سبق.
إنَّ مسألة رؤية الهلال لا تتعلق بالعدالة الدينية في زماننا، بقدر ما يضاف إليها القدرة العلمية على تحديد مكان الهلال ورؤيته
إنَّ مسألة رؤية الهلال لا تتعلق بالعدالة الدينية في زماننا، بقدر ما يضاف إليها القدرة العلمية على تحديد مكان الهلال ورؤيته، ففي السابق كان الناس يعتمدون على رؤية الهلال، ولم يكن لديهم أية معرفة بالحساب الفلكي وغيره، ورغم ذلك، فقد كان الأئمة يحتاطون في عدد الشهود على رؤية الهلال، فبعضهم كان يشترط شاهدين اثنين على الأقل لرؤية هلال العيد، تجنّباً للخطأ والوهم، والبعض الآخر كالإمام أبي حنيفة، لم يأخذ برؤية الواحد والاثنين والثلاثة، إذ رأوا الهلال في جو صحو، ولم يشهد الكثير من الناس بذلك، بل علق الرؤية على رؤية جمع كبير من الناس، حتى يتجنّب الوهم والخطأ.

أمَّا في وقتنا المعاصر.. فلا يشك المرء في عدالة الناس – وإن كانت متوقعة- لكن الفرد يشك في صحة المعلومة العلمية التي يعتمدون عليها، خصوصاً إذا خالفت أبسط القوانين العلمية، فكيف يقدّم الظن المحتمل للخطأ، على العلم القطعي الذي لا يحتمل أي خطأ بسيط!!

إنَّ على العلماء، وجهات الافتاء، في العالم الإسلامي، تدارس هذا الموضوع، معتمدين على المقاربة الصَّحيحة بين العلم الشرعي، وعلم الفلك، إذ لا تعارض بينهما، ولا يوجد ما ينافي من الاعتماد على الحساب الفلكي كدليل نفي على الأقل، وهذا لا يكون إلاَّ بالحوار القائم على أسس علمية ومنهجية، وليس على التنظيرات البعيدة كل البعد عن العلم الحديث، وما يطرأ عليه من مسائل وتقنيات مستحدثة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب فلسطيني، حاصل على الدكتوراه في الفقه وأصوله، متخصص في موضوع السياسة الشرعية والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

alt

بكري الطرابيشي .. أعلى إسناد على وجه الأرض

كان شيخاً جليلاً موقراً ذا تواضع جمّ، يجلس في حلقته الكبير والصَّغير .. والعالم والمتعلّم …