البذلة العسكرية والتجرّد من الإنسانية

الرئيسية » بصائر تربوية » البذلة العسكرية والتجرّد من الإنسانية
alt

"أسرع يا رامي، فقد أدركنا الصَّباح، وستفضحنا أشعة الشَّمس"، بهذه العبارة همست في أذن زميلي الذي كان منشغلاً بتزيين حيطان أحد أحياء وطننا الفلسطيني بشعارات تدعو لمقاومة الاحتلال.

كان ذلك فجرَ أحد أيام شتاء عام 1992 خلال ذروة أحداث انتفاضة الحجارة (1987-1994)، حينما كنت فتى صغيراً لا يتجاوز عمري الـ16 عاماً، وأنتمي لإحدى التنظيمات الفلسطينية المقاومة.

فوجئت في تلك الأثناء بطفل يبلغ حوالي العاشرة من عمره، كان في طريقة للمدرسة يقف بجواري "متفرّجا" على زميلي، وهو ينفذ مهمَّته، فقمت بنهره طالباً منه المغادرة، إلاَّ أنَّه أخذ يناشدني السَّماح له بالوقوف ومشاهدة ما يجري.

أدرت عملية حسابية خاطفة في عقلي، فوجدت أنَّ وجود الطفل سيعرضنا للخطر، حيث إنَّه سيلفت الانتباه من قبل المارّة، أو القوات الخاصة الصهيونية "المستعربين"، فتحرَّكت بسرعة، وركلته بقوة، قبل أن يولّي هارباً.
مرَّت سنون على تلك الحادثة، وأنا أرويها لزملائي ومعارفي بشيء من البرود دون أن أشعر يوماً بأنِّي ارتكبت خطأ ما.

بعد انقضاء انتفاضة الحجارة، تركت عملي ذاك في هذا التنظيم، بعد حلّ الجهاز الذي كنت أعمل به، ولم يبق لي منه سوى الذكريات.

بيد أنّي –بعد ابتعادي عن العمل التنظيمي-بدأت أشعر بألم وأسف شديدين تجاه هذه الحادثة بالذَّات، والتي لا تكاد تفارق خيالي، وظللت أسأل نفسي: بأيّ حق سمحت لنفسي بضرب الطفل؟ وألم تكن هناك طرق أخرى لإبعاده؟
وهل حذرته قبل أن أضربه؟ وهل تراه سامحني؟ وهل سيغفر لي ربّي هذا السّلوك المشين؟
ربما يعتقد البعض، أنّني شخصٌ مرهف المشاعر، وأنَّ المسألة بسيطة ولا تستحق مجرَّد التفكير بها.

لكني اعتقد أنَّ المسألة ليست كذلك، بل هي مسألة نفسية معقدة يعرفها جيّداً خبراء علم النفس.

يقول بعض خبراء علم النفس: إنَّ الجنود حينما يحملون السِّلاح، ويلبسون البزَّة العسكرية، يجنحون بدرجات متفاوتة عن إنسانيتهم، ويركبهم -بفعل سلاحهم وزيّهم العسكري-الغرور، ويستسهلون انتهاك حقوق المواطنين.
ويقولون أيضاً: إنَّ الجنود الذي يرتكبون جرائم الحرب، قد لا تهتز مشاعرهم في لحظات ارتكاب تلك الجرائم، فيزهقون الأنفس، ويغتصبون النساء، ويسرقون المال، دون أن يرف لهم جفن.

إلاَّ أنَّ الحال لا يكون كذلك عقب تسريح هؤلاء الجنود من العسكرية، وعودتهم إلى الحياة المدنية.
فبعد عودة الجندي إلى حياة المدنية، تبدأ إنسانيته بالعودة إليه تدريجياً، فتبدأ الجرائم التي ارتكبها خلال مرحلة العسكرية تلاحقه في كلِّ مكان.

وتتمثل النتيجة غالباً، بإصابة الجندي المسرّح، بمرض نفسي، يقوده إمَّا إلى إدمان الخمر أو المخدرات (كي يهرب من ظلال الذكريات المروعة)، أو إلى الانتحار.
يقول أحد الكتاب الأمريكيين:"من بيده مطرقة يميل للاعتقاد بأنَّ كلَّ من حوله مسامير".
(كتاب العادات السَّبعة للناس الأكثر فعالية).

اعتقد أنَّ حالة النَّدم والأسف التي أصابتني اليوم، على الاعتداء بالضَّرب على ذلك الطفل، لا تختلف كثيراً عن حالة الجندي الذي ارتكب جريمة حرب، وقادته إلى الانتحار.

فكلانا، كان في مرحلة "العسكرية" وواقع في "فتنة القوَّة والعنفوان"، حيث تلبستنا حالة من "الكبرياء والغرور"، فلم يشعر بأيّ إشكالية تتمثل بانتهاك حق مواطن "مسكين".

كما أنَّنا كنّا نعتقد أنّنا نمتلك الصواب، وأنَّ الآخرين مجرد "أشياء"، ومجرمين يجب تأديبهم.

لكن حينما غادرنا تلك "البيئة"، وعدنا إلى "البيئة الطبيعية" بدأنا بتقييم ما ارتكبناه خلال الحقبة السَّابقة، ولكون جريمتي بسيطة، فإنّها قادتي إلى الشعور بالنَّدم المقرون ببعض الألم، إلاَّ أنَّ ذلك الجندي، ولكون جرائمه بشعة، فإنَّها قادته إلى الانتحار.

قد يرى البعض أنَّ من الظلم واللا منطق الربط بين جرائم جنود البغي ضد الإنسانية، وبين أخطاء قد يرتكبها مجاهدون في سبيل الله، تكون غالباً غير مقصودة، ولها مبرّراتها –من وجهة نظرهم.
حسنا، قد يكون هذا صحيحاً، لكن صدّقوني: المحصلة ستكون واحدة، وتتمثل بشعور جارف بالنَّدم والحسرة، ولكن بعد فوات الأوان، ولات حين مناص.

دعونا نأخذ على سبيل المثال، جنود قوى الأمن والعسكر العربية والإسلامية.

إننا نفترض أنَّ غالبيتهم أناس طيّبون، ومتديّنون بالفطرة، وذوو نزعة وطنية، وإن كانت بعض قياداتهم، ليست كذلك.
رغم ذلك يرتكب الكثير من هؤلاء جرائم يومياً ضد أبناء شعوبهم، ليست بالضرورة تنفيذاً لأوامر قياداتهم "السيئة"؛ فالشرطي، يستسهل الاعتداء بالضرب على المواطن لأتفه الأسباب.

والمحقّق في المخفر، لا يرف له جفن، وهو ينتهك آدمية المواطن، بدعوى حماية "الأمن العام".
ولو سألت هؤلاء: لماذا ؟ سيجلبون لك جبالاً من المبرّرات.

قد لا نستغرب كثيراً حينما يمارس هذه التجاوزات، جنود، أو ضباط، من عامة النَّاس، بسطاء، دهماء، منحرفين، لكن من المحزن، أن ينتهك حقوق الناس، جنود وضباط، متدينون، بل ودعاة.
{وقفوهم إنَّهم مسؤولون} (الصَّافات: 24).

ألا يعلم هؤلاء أنَّ الله سيحاسبهم حساباً عسيراً على ظلمهم للعباد، واستغلالهم لنفوذهم أو طبيعة عملهم في التعسف بالمواطنين ؟.

وعليهم أن يعلموا أن الله سبحانه وتعالى سيعاقبهم في الدُّنيا كذلك، (ولو بعد حين)، فالدنيا بما فيها لا تساوي "غم ساعة".

يقول العلماء بأنَّ "من يُرى الإسلام من خلاله، لا تجوز له الرُّخصة".

وعليه، فما جزاء الدَّاعية أو المتديّن، المنتمي لذاك الجهاز الشّرطي، أو الأمني، أو العسكري، والذي (يُرى الإسلام من خلاله) حينما يعتدي على مواطن بسيط، في وضح النَّهار، أمام عامَّة النَّاس، ملحقاً بدينه ودعوته أفظع الضَّرر؟.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …