إنَّ المشكلةَ الأمَّ في حياة الإنسان والأمَّة عندَ "مالك بن نبي" هي مشكلةُ الحضارة، و"إنَّ مشكلة كلِّ شعْب هي في جوهرها مشكلةُ حضارته"[1]، وشروط حلِّ هذه المشكلة هو الارْتقاء بالفِكر إلى درجةِ الوقائِع الإنسانيَّة ذات الطابع العالَمي؛ للإلمام بشروطِ النهضة والتحضُّر، وأسباب التخلُّفِ والانهيار، "ولا يُمكن لشعبٍ أن يفهمَ أو يحلَّ مشكلته ما لم يرتفعْ بفكره إلى الأحداث الإنسانيَّة، وما لم يتعمَّق في فَهم العوامل التي تَبني الحضارة أو تهدمها"[2].
إنَّها العظَمة حينما يدخُل شعب التاريخ، ويُؤذن له بفجرٍ جديد مِن الارتقاء في سبيلِ المدنيَّة، يُبعث ليشكلَ حضارة في سلسلة الحضارات، "وما أهولَها مِن ساعة حينما تُعلن غروبَ أخرى!"[3]، وحضارة أيِّ شعب تمثِّل حلقةً في سلسلة الحضارات، تجسِّد جهودَ وأعمال الشعوب باعتبارها أجيالاً متعاقبة متَّصلة فيما بينها في سبيلِ الرُّقي والتقدُّم، فما شروطُ هذا الرُّقي وهذا التقدُّم؟
إنَّ السؤال المطروح يرتبط أصلاً بالتجديد الحضاري؛ لأنَّ أي رُقي أو تقدُّم لأي شعْبٍ ما لم يعرفِ الحضارة، أو متحضِّر خرَج مِن الحضارة - لا يَجري خارج التجديد الحضاري، الذي يكون قبلَ الحضارة أو خلالها وبعدَها، فهو يعني التغيير الذي يَطرأ على الإنسان الذي لم يعرِفِ الحضارة، فيلهمه الشروطَ الكافية لبناءِ الحضارة.
مهمَّة التجديد الحضاري لا تنحصِر في البحْث عنِ التجديد والسعي وراءَه، بل في إحياء القديم وبعْثه وتكييفه مع المستجدَّات
هذه الشروط ضروريَّة لميلاد أيِّ حضارة، كما يَعني سائر التغيرات والتطوُّرات التي تَجري في مجتمع متحضِّر غايتُها ترقية الحضارة، والمحافَظة على استمرارها بتجنيبها الفسادَ والزوال، وما دام الفسادُ يتسرَّب إلى المجتمع وإلى حضارتِه فيقوم التجديد الحضاري بإصلاحِ الأوضاع لا لردِّ المعطيات إلى نِصابها فحسبُ؛ بل تشخيص الفساد وأسبابه، وتحديد المبادِئ والغايات، والسُّبل والوسائِل المناسِبة والمتاحَة لإزالة الفساد وتجاوزه، ونجِد الكثيرَ مِن الشعوب التي لا تزال تعيش على ما ترَكه أسلافها، ومهمَّة التجديد الحضاري لا تنحصِر في البحْث عنِ التجديد والسعي وراءَه، بل في إحياء القديم وبعْثه وتكييفه مع المستجدَّات، فالتجديدُ الحضاري بمعانيه المحدَّدة سابقًا يمثِّل جوهرَ الحضارة ومحرِّكها، وجوهرَ التاريخ ومحرِّكه.
فالتساؤل يطرَح حولَ التجديد الحضاري مِن حيث شروطُه، هذه الشروط متعدِّدة لكنَّها تتماسَك في وحدةٍ عضوية بفِعل المجهودِ الإنساني، هذا التماسُك يُفضي إلى معطيات جديدة في الفِكر والمجتمع والحياة عامَّة، فتُشرق شمسُ النهضة الحضاريَّة بنورها – ميلاد حضارة - ويَعيش الإنسان المدنيَّة، هذه المدنيَّة تبقَى في حاجةٍ دائمة إلى تطوير، وتجديد مُعطياتها وأوضاعها بما ينسجِم مع "سنن الآفاق والأنفُس والهداية؛ مِن أجْلِ الرقي المعرفي والرُّوحي والسلوكي والعُمراني في عالَم الشهادة"[4]، والتجديد يُصبِح ضروريًّا لميلادِ الحضارة، وضروريًّا لتطويرِ مغزاتها وارتقائها، وشروط هذه العمليَّة خاصَّة ومرتبطة بشروطِ البناء، ونفْس الشيء بالنِّسبة للإصلاح والإحياء والبعْث.
بالنِّسبة لشروط التجديدِ الحضاري أو البِناء الحضاري محدَّدة في سائرِ كتابات "مالك بن نبي"، خاصَّة في كتابه "شروط النهضة" نذكُرها، وهي خمسة: العناصر الأوليَّة ويُسمِّيها "مالك بن نبي": "العدَّة الدائمة"، العامِل الرُّوحي، التغيير، البِناء لا التكدُّس، والتوجيه، أمَّا شروط الارْتقاء داخلَ الحَضارة، وإصلاح المجتمَع المتحضِّر وإحياء الحضارة - كلُّ هذا يَشترط الشروط الخمسة كما يَقتضي عواملَ أخرى، كلٌّ حسبَ طبيعته والظروف المحيطة به، والشروط الخمسة نتناولها كما يلي:
العناصر الأولية:
الثَّروة الأوليَّة لإنسان يرغَب في شقِّ طريقه نحوَ النهضة والحضارة والمدنيَّة، وهي ما يُعرَف عند "مالك بن نبي" (بالعُدَّة الدائمة)، تتكوَّن هذه الثروة الإنسانيَّة مِن الإنسان والتراب والوقت، "وهكذا لا يُتاح لحضارةٍ في بدئها رأسمال، إلاَّ ذلك الرجلُ البسيط الذي تحرَّك، والترابُ الذي يمدُّه بِقُوتِهِ الزهيدِ حتى يصلَ إلى هدفه، والوقتُ اللازم لوصوله"[5]، والعُدَّة الدائمة ميراث الإنسان والتاريخ والمجتمعات، ليستْ حكرًا على أحد، وهي ليستْ مِن منجزات أو منتجات الحضارة، بل الحضارةُ تتكوَّن وتتركَّب منها، فالقُصور والدُّور ووسائل النَّقل والاتِّصال المتطورة هي منجزاتُ الحضارة، لا مِن العناصر الأوليَّة.
إذ كان الإنسان غيرَ قادر على التخلِّي عن طبيعته الاجتماعيَّة والمدنيَّة، فهو لا يُمكن أن يُفرِّط في العناصر الثلاثة، التي تمثِّل رأسماله الأوليَّ لتحقيق وجودِه الاجتماعي والمدني، وإنْ كان قادرًا على الاستغناءِ عن منتجات الحضارَة ومنجزاتها مؤقتًا.
إنَّ الشعوبَ التي شاركت في الحرْب العالمية الثانية قوَّمت خسارتها في الحرب ليس بالذهب، بل بساعاتِ العمل؛ "أي بقيم مِن الوقت ومِن الجهود البشريَّة ومِن منتجات التراب، تلك هي القِيم الخالِدة التي نجِدها كلما وجَب علينا العودةُ إلى بساطة الأشياء؛ أي: في الواقِع كلَّما تحرَّك رجلُ الفطرة وتحرَّكت معه حضارةٌ في التاريخ"[6].
فالحضارة بسائرِ منجزاتها ومنتجاتها الفِكريَّة والماديَّة تُرد في أصلها إلى "العُدة الدائِمة"، وأيُّ منتوج حضاري هو حصيلةُ تآلُف بين العناصر الأوليَّة الثلاثة، فالمصباح الذي نستعمله في الإنارةِ هو منتوج حضاري، أنجزتْه جملةٌ مِن الأفكار تطوَّرت مع الزمن عند الإنسان، الذي يمثِّل العنصر الأوَّل الذي يدخُل في إطار التدخُّل البشَري الفِكري واليدوي، ابتداءً مِن أوَّل إنسان فَكَّر في المصباح وصنَعه، إلى "إديسون" مخترِع المصباح الكهربائي، أمَّا التراب فهو العُنصر الثاني، فيمثِّل المادةَ الأوليَّة التي تقوم بمهمتَي الوصل أو العزْل، والزَّمن هو الذي تَجري فيه عمليةُ الإنجاز والبِناء لأيِّ ناتج حضاري.
فالعناصر الأوليَّة الثلاثة - الإنسان، التراب، والوقت - كلٌّ منها يمثِّل نوعًا يتحدَّد بماهيته؛ أي: بجملة الصِّفات الجوهريَّة المشتركة بيْن مجموعةٍ مِن الكائنات، فالإنسان نوع يتحدَّد بوجوده النفساني العاقِل الاجتماعي الرُّوحي، والأمْر هنا يشمل كافةَ أفراد الإنسان، والتراب نوعٌ يمثِّل مادةً أوليَّة حالَّة في الطبيعة تُوظَّف في بناء الحضارة.
أمَّا الوقتُ، فهو نوعٌ يمثِّل أيَّ زمن تَجري فيه الأحداثُ الإنسانية، ويتحرَّك فيه المجتمع داخلَ التاريخ، وتتكوَّن في مجاله الحضارة، "فمالك بن نبي" قدِ انتهى مِن ترتيب المعادلات في تكوينِ المنتجات الحضاريَّة إلى "مجموعة منتجات حضاريَّة = مجموعة إنسان + مجموعة تراب + مجموعة وقت، ولكن جمع منتوجات حضاريَّة هو الحضارة نفْسها في صورةٍ غير مركَّبة، وجمع إنسان هو الإنسان نوعًا، وجمع تراب هو التراب نوعًا، وجمع الوقت هو الوقت نوعًا"[7]، كما يؤكِّد في تحليله لمشكلةِ الحضارة ولاعتبارات اجتماعيَّة أنَّ حلَّها يستوجِب "حلَّ ثلاثة مشكلات جزئيَّة:
1- مشكلة الإنسان وتحديد الشروط لانسجامِه مع سِير التاريخ.
2- مشكلة التراب وشروط استغلالِه في العمليَّة الاجتماعيَّة.
3- مشكلة الوقت وبثّ معناه في رُوح المجتمع ونفسيَّة الفرْد"[8].
الفِكرة الدِّينيَّة:
إذا كان الفردُ في حاجة إلى الجماعة لتستقيمَ حياته، والاجتماع الإنساني في حاجة إلى الأفراد ليضمن قيامَه وسيره إلى الأمام، فهو في أمسِّ الحاجة إلى النِّظام ليحقِّق وجودَه واستمراره، وهذا الاجتماع يظهر في صورةِ مجتمع يبقَى في حاجةٍ كبيرة إلى عقيدة موحدة تُنشئ العَلاقات والقِيم الأخلاقيَّة، وتبث في أفرادِ المجتمع الشعور المشترَك بحاجة الأفراد إلى بعضِهم البعض، وبوجودِ رِسالة ووظيفة في مستوى الفرْد وفي مستوى الجماعة وفي مستوى الأمَّة، وبوجودِ مبادئ وغايات لا تضمن وجودها إلاَّ بالوسائل والسُّبل المناسِبة، فتكون هذه العقيدة الموحَّدة هي الدافِع إلى النهوض بالرِّسالة والوظيفة داخلَ المجتمع، فيبدأ التارِيخ وتَنطلق الحَضارة، فالتاريخ يَصنعه الإنسان، والحَضارة
إنتاج إنساني في التاريخ، وهذا الصنع وهذا الإنتاج مِن فِعل الإنسان بدافِع من الفِكرة الدِّينيَّة.
فالعقيدة تُغذي الرُّوح مثلما يتغذَّى الجسم مِن الأشربة والأطعِمة، والحضارة في طَورها الأوَّل تشترط عوامل رُوحيَّة دِينيَّة تكون وراءَ كلِّ تجديد في النَّهضة الحضاريَّة، وهو الأمْر في الحضارة الإسلاميَّة والحضارة المسيحيَّة والحضارة البوذيَّة وغيرها، تعلَّق المسلمون الأوائل بالإسلامِ وبالفِكرة الدِّينيَّة وكانوا في جاهلية تعلقًا - وهو تعلُّق له أسبابٌ ودوافعُ - لم يسمحْ لتقاليد وأحكام وأفعال الجاهليَّة المردودة مِثل وأدِ البنات، والزِّنا، والوثنيَّة، والعصبيَّة بأن تقِف في وجه الفَناء الرُّوحي في تعاليمِ القرآن وسُنة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبذلك بزغتْ شمس الحضارة وسطَع نور النهضة في صحراءِ العرَب القاحلة، وعند رجُل الفِطرة الذي لا يعرِف سوى الحلِّ والترْحال بحثًا عن الكلأ لعيالِه وأنعامه.
يرَى "مالك بن نبي" أنَّ الحضارة ليستْ وليدةَ الجغرافيا والمناخ في صورةِ التحدي والاستجابة، ولا العامل الاقتصادي، بل تصنعها فكرةٌ دينيَّة ومبدأ أخلاقي مِن خلال التأليف والتوحيد بيْن عناصرها الثلاثة: الإنسان التراب والوقت، فتشكل الفِكرة الدِّينيَّة المركَّب في كلِّ تجديد حضاري أو نَهضة حضاريَّة، فهي "تتدخَّل إمَّا بطريقة مباشِرة، وإمَّا بواسطة بديلاتها اللادينيَّة نفسها في التركيبة المتآلِفة لحضارةٍ ما وفي تشكيل إرادتها"[9]، وإذا كانَ للحضارة عمرٌ كعمر الطفل، فإنَّ المهد الذي تولَد فيه هو الفِكرة الدينيَّة.
الحضارة حسب "مالك بن نبي" تشهد ثلاثةَ أطوار: طور النهضة والميلاد، وطور الازدهار والأوج، وطور الفساد والأفول، أمَّا الطور الأول، فهو رُوحي تنتظم وتنضبط فيه الغرائزُ تحتَ سلطان الرُّوح بتوجيهٍ مِن الفِكرة الدِّينيَّة، ويتطوَّر المجتمع الذي أنجبتْه الفكرة الدينيَّة في المرحلة الثانية بفِعل اكتمال روابطِه الاجتماعيَّة، وبمدَى انتشار الفِكرة الدينيَّة في العالَم، فتبرز المشاكلُ وتكثُر المطالب، وتكون النتيجة التالية: فإمَّا أن يكونَ هناك تطابُق "مع النهضة كما نراها بالنِّسبة إلى الدورة الأوربيَّة، وإمَّا أن يتطابق مع استيلاءِ الأُمويِّين على الحُكم كما هو شأن الدورة الإسلاميَّة"[10]، وفي الحالتين تكون السلطةُ في يدِ العقل الذي لا يملك سلطةَ النفوذ على الغرائزِ التي تسترجع نفوذَها بفقدان الرُّوح لنفوذها عليها، فتظهر بوادرُ الانهيار والأفول.
فتأثير الفِكرة الدِّينيَّة في الرُّوح الفرديَّة والرُّوح الاجتماعيَّة هو الذي يُحدِث الدوافع والأسباب في رُوح الفرْد والمجتمع إلى النهوض، ويكون هذا الحال وراءَ كلِّ تجديد حضاري، وخَلْق كلِّ حضارة، وأساس حرَكة الإنسان في التاريخ.
التغيير:
إنَّ التغييرَ الذي يعرِفه التاريخ ويمسُّ حياةَ الفرد والمجتمع والأمَّة هو جوهرُ ولبُّ عملية التجديد الحضاري، قبلَ الحضارة وخلالها وبعدها، وكما يكون التغيير شرطًا لازمًا لبِناء الحضارة، فهو شرْطُ كلِّ تطور حضاري، وشرْط كلِّ عملية إصلاح أو بَعْث وإحياء، وكما يكون التغيير شرْطَ البناء الحضاري، فقدْ يشرف على هدْمِ هذا البناء وإزالته، و"مالك بن نبي" يضَع التغييرَ كفاعلية إنسانية فرديَّة واجتماعيَّة وأمميَّة وراءَ كلِّ نهضة، ومبدأ التغيير عندَه يمثِّل قاعدةً ذهبية أكَّد عليها القرآن الكريم في قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
تناول "مالك بن نبي" مبدأَ التغيير كقاعدةٍ عامَّة في كلِّ حركة تاريخيَّة حضاريَّة، فهو يلازم كلَّ عملية مِن شأنها أن تجدِّد أو تطوِّر أو تصنع التقدُّم والإبداع في مختلف مجالات حياةِ الإنسان الفكريَّة والاجتماعيَّة والماديَّة، كما تناوله كمشكلة مطروحة أمامَ العالَم الإسلامي الذي يُعاني الجُمود والركود والتخلُّف، وحلُّ هذه المشكلة مرهونٌ بتمسك المسلِم بالقاعدةِ المقرَّرة في الآية السابِقة، خاصَّة وأنَّ عناصر الحضارة كامنة في جوهر الدِّين، ومهمَّة الدِّين ليستْ في إنشاء الحضارة فقط، بل تأثيرها يتواصَل متجاوزًا حدود الزَّمان والمكان، وعُدَّة الحَضارة الخالِدة هو الإنسان الذي يتحرَّك في الحضارة بدافِع الرُّوح الدِّيني، فينتج الأفكارَ والأشياء؛ أي ينتج الحضارة ويحرِص على تطويرها وحمايتها مِن الفساد والإفلاس والزَّوال.
إنَّ عمليةَ إنتاج الأفكار والقِيَم والأشياء بفِعل التجديد الحضاري تكون بدافعِ الفِكرة الدينيَّة، هذه العمليَّة تتضمن تغييرًا يَحدُث في رُوح الفرد ورُوح المجتمع ورُوح الأمة، وعامل التغيير يبدأ في داخلِ نفْس الفرد، ولا يتغيَّر شيءٌ في الخارِج إن لم يغيِّر الفرد نفْسه، "فهذه الحقيقة عِلميَّة يجب أن نتصوَّرها كقانونٍ إنساني وضَعه الله - عزَّ وجلَّ - في القرآنِ كسُنة من سُنن الله التي تَسير عليها حياةُ البشَر"[11]، ولا يحصُل التغيير في محيطِ الفرْد ما لم يحصُل في نفسه أولاً، وتغيير النفْس هو الأساس لكلِّ تغيير هادف رشيد، فالاستعمار لم يستطعْ فِعل شيء أمامَ فرد ذي نفس تحرَّرت مِن المذلة بفِعل تغيير نفْسي مكَّنها من القيام بوظيفتها الاجتماعيَّة.
فالتغيير ضرورةٌ لا بدَّ منها؛ لكي يحقِّق الإنسانُ وجودَه في التاريخ، ويقوم بوظيفتِه الاجتماعيَّة التاريخيَّة، والتغيير يبدأ مِن داخل نفْس الفرْد، ثم يشق طريقَه خارج الفرْد في المجتمع والأمَّة والإنسانيَّة جمعاء، هذا المبدأ لا يؤكِّد تاريخ النهضات والحَضارات بمفرده، بل يمثل مبدأً قرآنيًّا ثابتًا، وسنَّة من السنن الكونية وضعَها الله لتَهدي حياة العباد، كما يمثِّل هذا حقيقةً علميةً، فالفرد "لا يمكنه أن يغيِّر شيئًا في الخارج إنْ لم يغيِّر شيئًا في نفْسه، وحينما نقول هذه الكلمة نقولها باعتبارها علمًا، ولا نقولها فقط تبركًا بآية، نقولها علمًا ونعلم مقدارها مِن الصحَّة العلميَّة"[12]، وبالتالي يظلُّ التغيير فاعليةً إنسانيَّة ضروريَّة للتجديدِ الحضاري عندَ إنسان تحرَّك في التاريخ ليحقِّق وجوده، عندَ إنسان صارتْ إرادته قويَّة ورغبَته كبيرة في الارتقاء الحضارِي، عندَ إنسان يُعاني الفسادَ فتحرَّك لإصلاح أوضاعه، عندَ كل مَن شقَّ طريقه نحوَ البعث والإحياء وإعادة البناء، وهجران الجمود والتخلُّف والانحطاط.
البناء لا التكديس:
يَعتمد "مالك بن نبي" في تحديدِ شروط النهضة والتجديد على شواهدَ تاريخيَّة، كما يستقرِئ الواقِع؛ واقِع الأُمم المتحضِّرة، وظروفَ الشعوب المتخلِّفة، ويُرجِع مشكلات الإنسان جميعًا إلى مشكلة الحضارة، "فالقضية إذًا ليستْ قضية فقْر، وإنَّما هي أمر يتعلَّق بأساس مشكلاتنا، فعلينا أن نُفكِّر في جذور المشكلات، وندرك أنَّ القضية قضيةُ حضارة، وما الفقرُ والغِنى، ولا الجهل ولا المرض، إلاَّ أعراضٌ لتلك المشكلة الأساسيَّة"[13].
تَشترط الحضارةُ العاملَ الرُّوحي - الفِكرة الدينية - الذي يدفَع الإنسانَ ليتحرَّك في التاريخ ويغيِّره، ويركّب بين عناصر "العدة الدائمة"، كما يتطلَّب التغيير في كلِّ مرحلة من مراحل التحضر وفي كلِّ طَور من أطوار التجديد، فتَقتضي الحضارةُ تجنُّبَ الاتكال على الغير، وتحاشي أسلوب الاستيراد والتكديس، فلا يتحضَّر شعب إلاَّ إذا امتلك وعيًا حضاريًّا يميِّز بيْن البناء والتكديس، وبيْن الإنتاج والاستيراد، "فالبناء وحْدَه هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس، ولنا في أُمم معاصرة أُسوةٌ حسنة، إنَّ علينا أن نُدرِك بأنَّ تكديسَ منتجات الحضارة الغربية لا يأتي بالحضارة"[14].
إنَّ عملية إنشاء الحضارة لا تتمُّ بشراء كلِّ منتجاتها وتكديسها؛ لأنَّ ذلك مستحيل مِن حيث الكمُّ والكيف معًا، فالحضارة لا تَبيع كل منتجاتها مرةً واحدة، فهي لها رُوح وأفكار وأذواق خاصَّة بها تبقَى لها، "وفي استخدامِنا للمصطلحات البيولوجيَّة نجد أنَّ الحضارةَ مجموعةٌ من العلائق بيْن المجال الحيوي "البيولوجي"، حيث ينشأ ويتقوَّى هيكلها، وبيْن المجال الفِكري، حيث تنمو وتولد رُوحها، فعندما نَشتري منتجاتها فإنَّها تمنحنا هيكلَها وجسدَها لا رُوحها"[15]، وتَعجِز الأمَّة المستوردة عن شراء كلِّ منتجات الحضارة ودفْع ثمنها؛ لأنَّها لا تملك رأسمال ذلك، فالاستحالة هنا تاريخيَّة واجتماعيَّة اقتصاديَّة، والتسليم بالإمكان يؤدِّي إلى "الحضارة الشيئيَّة"، لكن يوجد فرقٌ شاسِع بين تجرِبة مخطَّطة والحالة الحضاريَّة القائمة على التكديس، هذا ما يجعل البناءَ شرطًا ضروريًّا لقيام أيَّة حضارة على الأرْض، ويُصبح المقياسُ العام في عملية التحضُّر هو "الحضارة هي التي تلِد منتجاتها، وسيكون مِن السخف والسخريَّة حتمًا أن نعكِس هذه القاعدةَ حين نريد أن نصنعَ الحضارة مِن منتجاتها"[16].
إنَّ الحضارة عمليةُ بناء، وناتِج حركة أفراد المجتمع، تتطلَّب أسسًا فكرية ومادية في عالَم الأشخاص والأشياء، في إطارِ منهج يحدِّد المبادئَ والغايات، كما يستغلُّ كافةَ الوسائل والسُّبل لأداءِ الوظيفة الاجتماعيَّة، هذه الوظيفة لا تحصُل في غيابِ التوازن الرُّوحي المادي في الفرْد والمجتمع، وفي ارتباط الحضارة بعناصرها الأوليَّة مِن جهة، وبالتغيير من جهة ثانية، وبالبِناء مِن جهة أخرى، تُصبح "مشكلة الحضارة تنحلُّ في ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، ومشكلة الوقت، فلكي نقيمَ بناءً حضاريًّا لا يكون ذلك بأن نكدِّس المنتجات؛ وإنَّما بأن نحلَّ هذه المشكلاتِ الثلاث مِن أساسها"[17]، ولحلِّ المشكلات الثلاثِ واستغلال شروط البِناء استغلالاً رشيدًا يسمح بإنشاء حضارة، فذلك يتطلَّب توجيهًا رشيدًا لعناصر وشروط النهضة وسائرِ إمكانيات وطاقات الفَرْد والمجتمع.
التوجيه:
نَفهم ظاهرةَ التوجيه كشرطٍ ضروري للنهضة والتجديد الحضاري انطلاقًا مِن أنَّ النهضة مشروطةٌ بالتغيير الذي يقَع على مستوى الفرْد والمجتمع، هذا التغيير الذي يضمن تحرُّكَ التاريخ بفِعل دوافع نفسيَّة واجتماعيَّة، ولا يؤدِّي المجتمع رسالته ويَنهض بواجباته إلا بوجودِ ترابط عُضوي بيْن مكوِّنات شبكة العَلاقات الاجتماعيَّة "إنَّ صناعة التاريخ تتمُّ تبعًا لتأثير طوائفَ اجتماعيَّةٍ ثلاثة:
أ- تأثير عالَم الأشخاص.
ب- تأثير عالَم الأفكار.
ج- تأثير عالَم الأشياء.
لكن هذه العوالِم الثلاثة لا تَعمل متفرِّقة، بل تتوافَق في عملٍ مشترَك تأتي صورتُه طبقًا لنماذجَ أيديولوجيَّة مِن "عالم الأفكار"، يتمُّ تنفيذها بوسائل مِن "عالم الأشياء"؛ مِن أجل غاية يحدِّدها "عالم الأشخاص""[18].
التغيير التاريخي مِن إنتاج العوالِم الثلاثة، ووحدة التغيير التاريخي ضروريَّة، فإنَّ انسجام وَحدة التغيير التاريخي مع الغايةِ منها ضروري، ذلك يجسِّد الحضارةَ في الواقع، "وهذا الشَّرْط يستلزم كنتيجةٍ منطقيَّة وجود "عالم" رابِع، هو مجموعُ العلاقات الاجتماعيَّة الضروريَّة، أو ما يُطلق عليه "شبكة العلاقات الاجتماعيَّة"، وتَنطلق عملية التغيير التاريخي مِن الفرد؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، ثم تنتقل إلى خارجِ الفرْد، وهي عملية منوطة بتوجيهِ الفرد لا تتركه عُرضةً للتلقائيَّة والصُّدفة والارتِجال والفوضى، والتوجيه كعاملٍ حضاري يعني: "قوة في الأساس، وتوافُق في السير، ووحدة في الهدَف"[19]، كما يَعني: "تجنب هذا الإسراف في الجهد والوقت"[20]، فالمشكلة برُمَّتها مشكلةُ فرد يَصنع التاريخ مِن خلال تأثيره في المجتمع بفِكرِه وعملِه وماله، والتوجيه يكون في هذه النواحي الثلاث: الفِكر والثقافة، العمل ورأس المال.
بالنسبة لتوجيهِ الفِكر والثقافة يتعلَّق الأمرُ بالعناصر الجوهريَّة اللازمة للثقافة، وهي تكوّن المركَّب الاجتماعي للثقافة، وأسلوبها التوجيهي ينحصِر في توجيهِ الأخلاق، وتوجيهِ الجمال، وتوجيهِ المنطق العمَلي، وتوجيه الفنِّ التطبيقي العمَلي، أو الصناعة بلُغة "ابن خلدون"، والعَلاقة العضويَّة بين المبدأ الأخلاقي والذَّوق الجمالي هي التي تحدِّد اتجاهَ الحضارة، والمنطق العملي يمثِّل الأسلوبَ الذي يربط الأعمالَ بوسائلها ومعانيها، ويبعث في العمَل الفعاليَّة؛ لأنَّ كثيرًا من الأفعال تتميَّز باللافعاليَّة، فيذهب الأكبر منها في العبث واللهو، والصناعة أو الفن التطبيقي الذي يحتاج إلى توجيهٍ يتعلق بجميع الفنون والحِرف والقُدُرات والتطبيقات العلميَّة، فالصناعة فنٌّ له قيمة اجتماعيَّة مهما كان متواضعًا وزهيدًا، فحِرفة الرعي زهيدةٌ ومتواضعة جدًّا، بل وضيعة عندَ البعض في المجتمعات المتخلِّفة، فهي "لها مدرسةٌ وطنيَّة في فرنسا بمدينة "رامبولييه" مِن ضواحي باريس، فلو رأيْنا الراعي الخرِّيج مِن هذه المدرسة، والراعي عندما يقود كلٌّ منهما قطيعَه لعلمنا أي الفرق بينهما؟!..."[21].
أمَّا فيما يتعلَّق بتوجيهِ العمل عندَ مرحلة تكوين المجتمع، فهو يعني "سير الجهود الجماعيّة في اتجاهٍ واحد"[22]، كل صاحِب حِرْفة، وفي كل يوم يصنع حُجرة جديدة في البِناء الاجتماعي، "فتوجيه العمل هو تأليفُ كل الجهود لتغيير وضْع الإنسان وخَلق بيئته الجديدة"[23].
توجيه العمل يمثِّل عاملاً ضروريًّا للبناء الاجتماعي وصُنع الحضارة في التاريخ، وفي الوقت نفسه وَسيلة لكسبِ الحياة، و"حين يتَّحِد توجيهُ الثقافة وتوجيه رأس المال يفتح مجالات جديدة للعمل"[24]، والعمل لدَى الإنسان انبثَق في بدايته الأولى عندَما تحرَّكت يدُ الإنسان وشقَّتِ الطريق إلى الفِكر، فأعدَّت الجوَّ المناسِب لتطوره، و"كلَّما تقدَّم التوجيهُ المثلَّث للإنسان تغيَّر وجهُ الحياة حتمًا، فيكتمل ويحتلُّ مستوى أرفعَ دائمًا"[25].
يحدِّد "مالك بن نبي" رأس المال كأداة اجتماعيَّة لا سياسيَّة كما ذهَب "كارل ماكس"؛ لأنَّ "كارل ماركس" تناوله ضِمن ظروفِ وأوضاع المجتمَع الرأسمالي في عصرِه الذي كان يعرف اضطهاد الطبَقة البرجوازيَّة لطبقة البرولتاريا، أما "مالك بن نبي"، فتناوله ضِمنَ الظروف التي تَعيشها البلادُ الإسلاميَّة في عصرِه، وهو يؤكِّد على الفَرق بين الثروة، التي هي ملكٌ خاص لصاحبِه، ليس لها عملٌ مستقل وليستْ قوَّة مالية تدخل في بناء الصناعات والميادين الاقتصاديَّة الأخرى، وبيْن رأس المال، الذي هو قوَّة مالية تدخُل في تغيير وتطوير الاقتصاد، فهو"المال المتحرِّك"، وهو مجرَّد لا يُنسب إلى أحد، فحركته في داخلِ المجتمع وخارجه تحرُّك الأنشطةِ وتوظيف الأيدي والعقول، وتوجيه رأس المال يكون في الكمِّ بحيث يعرف الشمولَ والتوسيع، وفي الكيف بحيث يخلُق الشغلَ باستمرار.
• يؤكِّد "مالك بن نبي" في موضوعِ توجيه الثروة الماليَّة بقوله: "فالقضية ليستْ - كما بينَّا - في تكديس الثروة، ولكن في تحريكِ المال وتنشيطه، بتوجيهِ أموال الأمَّة البسيطة، وذلك بتحويل معناها الاجتماعي مِن أموال كاسِدة إلى رأسِ مال متحرِّك، يُنشِّط الفِكر والعمَل والحياة في البِلاد"[26].
إنَّ توجيهَ الإنسان في النواحي الثلاث لغرَض التجديد الحضاري يرتبِط بتوجيه التراب والوقت، بل يشترط ذلك ليكونَ الفعل الحضاري متكاملاً، فالتراب عنصرٌ مِن عناصر تكوين الحضارة، وقِيمته الاجتماعيَّة تكون على قدْر مالكِيه مِن التقدُّم أو التخلُّف والانحطاط، ففي الجزائر أخذتِ الأراضي الزراعيَّة تَختفي شيئًا فشيئًا بفِعل زحف الرِّمال وغزو الصحراء وسكَّان الأرض، "وقفوا منها موقفَ الجبان والضعيف، لقد فرَّ ساكنُ البادية... فهو الآن تائهٌ حائر بيْن الصحراء التي تبدِّده، وبين المدن الساحليَّة التي ترفضه أو تبتلعُه حيث تجعل منه إنسانًا منبوذًا"[27]، أمَّا في فرنسا، فانطلق الإنسان وقام "بغرْس أشجار في الناحية الجنوبيَّة الغربيَّة مِن البِلاد، حيث كانتْ رمال الشاطئ الأطلنطي والمستنقَعات الضارَّة تهدِّد مصالح أهلها وصحَّتهم"[28].
الزَّمَن هو العامِل الثالث مِن عوامل الحضارة، يمثِّل ثروة في مجالٍ ما، ويكون عدمًا وفراغًا في مجالٍ آخر، وهو جوهرُ الحياة الذي لا يُقدَّر بثمن، ويرتبط بالتاريخ، ولا يتحدَّد معنى التأثير الإنساني في الإنتاج ولا يتحدَّد معنى الوجودِ الإنساني إلا بتحديد فِكرة الوقت ووعْي قِيمته، والتربية هي الأداةُ الوحيدة التي تغرِس في أفراد المجتمع قيمةَ الوقت وتُثبتها فيهم، "فإذا استُغلَّ الوقت هكذا فلم يضِعْ سُدًى ولم يمرَّ كسولاً في حقلنا، فسترتفع كميةُ حصادنا العقلي واليدوي والرُّوحي، وهذه هي الحضارة"[29].
فالتجديدُ في الحضارة مِن حيث تكوينها، أو تطوُّرها، أو استمرارها، أو إصلاح أوضاعِها - يَقتضي عُدَّةً دائمةً، وتغييرًا يبدأ مِن داخل الفرْد ثم يتَّجه إلى الخارِج، فيحصُل البِناء مِن خلالِ توجيه وتخطيط يربط المبدأَ بالغاية، ويستغلُّ جميعَ الوسائل والمناهج لخِدمة الإنسان، ولتحقيق أغراضه القريبة والبعيدة.