علو الهمَّة.. سلاحُ الدَّاعية النَّاجح

الرئيسية » بصائر تربوية » علو الهمَّة.. سلاحُ الدَّاعية النَّاجح
alt

بعد أن أطلق تنهيدة عميقة، ضرب "فلاح" كفاً بكف، متأملاً الوجوه الملتفة حول الطَّاولة الخشبية المستطيلة متسائلا في قرارة نفسه:" أهكذا هم الدُّعاة؟ أهذا مستوى الهمَّة الذي يتمتعون به؟ .. لولا الحياء لصرخت في وجوههم، مطالباً إيَّاهم بالرَّحيل، وترك مجال الدَّعوة لأهله".

وما هي إلاَّ دقائق، حتَّى قرَّر أن يضرب عرض الحائط أصول الأدب واللياقة، مقاطعاً أحدهم، وهو يتحدَّث:" أعتذر، عليَّ المغادرة الآن..عندي مشاغل".

وفي الطريق إلى مكتبه، ظلت تحاصره تساؤلات لا تنتهي: "ما بال بعض دعاتنا قد ودّعوا ساحات (علو الهمَّة)، وغادروا ملاعب (العزيمة)، وارتضوا أن (يقعدوا مع الخوالف) من الفاشلين العاجزين".

وما أن وصل إلى المكتب، حتّى ألقي بحزمة الأوراق التي تشمل المشاريع التي قدّمها لـ "إخوانه الدّعاة"، على أحد الرفوف، وجلس يعيد التفكير فيما جرى، محاولاً فهم أسباب رفضهم لتلك المشاريع، رغم أهميتها، ورغم إمكانية تنفيذها، ورغم عدم وجود أيّ عائق مالي، فلم يجد لهم عذراً، سوى "أنَّ الكسل والعجز قد تمكَّن منهم، فلم يعودوا يقووا على النهوض".

ما زاد من حسرة "فلاح" أنَّ هذا الأمر يتكرَّر دوماً، وتحت ذات الذرائع والحجج، والمتمثلة بـ" ليس وقته.. سيشغلنا عن أعمالنا الرئيسة..دعنا نبحثه فيما بعد..ليس مهمّاً.. الخ.

علو الهمَّة من الإيمان

"ذو الهمَّة إن حطَّ، فنفسه تأبى إلاَّ علوّاً، كالشُّعلة من النار يصوِّبها صاحبها، وتأبى إلاَّ ارتفاعاً" مقولة قديمة رسم قائلها معالم خارطة الطَّريق إلى القمَّة، فلا يسلكها إلاَّ من يحمل مشاعل الهمَّة ويرتدي ثوب الإرادة.

وعلى المائدة ذاتها، وإن سبق الزَّمان تحدّث عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه وبات قوله: "علو الهمَّة من الإيمان" الشعرة التي تفصل بين النجاح والفشل، ولم يخالفهما الجنيد رحمه الله فقال:"عليكم بحفظ الهمَّة، فإن حفظ الهمَّة مقدّمة الأشياء".

كلّها خطوط وحروف وخرائط تركها رسولنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلّم وصحابته من بعده للأمَّة لترجع إليها لتحقّق النجاح وترتقي بين الأمم وفيها عنوان واحد إنَّه: "الهمَّة"، وليس فقط في أمور الدّين وإنَّما الدُّنيا.

يقول الدَّاعية الفلسطيني د.تيسير إبراهيم: "إنَّ الولوج إلى الدّنيا وعلوّ الهمَّة للنَّجاح في أمور الدنيا والسَّعي في الأرض واستخراج الخيرات فريضة على كل المسلمين، لأنَّه لا يمكن أن تحصل القوَّة للمسلمين إلاَّ بهذا".

ويضيف د.إبراهيم: "على الدَّاعية أن يتفاعل مع الدنيا ويحقق النجاحات في أمورها، بل ويتفوق لتعود إلى الأمَّة قوتها، ونحن مأمورون أن نأخذ بأسباب القوة التي باتت معقدة في واقعنا الذي نعيشه، وكل هذا يستعدي من المسلم إعلاء همَّته".
"علينا التخلص من الكسل ولتعلو همتنا في أمور دنيانا لنرتقي بعملنا ونتفاعل مع حياتنا، ولا عيب على الداعية أن يكون متفاعلاً مع مناشط الحياة الدنيوية، وفي الوقت ذاته هو إنسان مسلم يقيم ما عليه من العبادات".
"لا عيب أن يتكلّم الدَّاعية عدَّة لغات أجنبية وليس من المستحيل أن يتفوّق الدَّاعية في علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة، وليس ضرباً من الخيال أن يكون الداعية طبيباً أو مهندساً أو عالماً في أمور الدنيا، فهذا ما كان عليه السَّلف الصَّالح والأنبياء والرسل من قبل والصَّحابة رضوان الله عليهم".

فريضة

يوضح د.إبراهيم أنَّ الدَّعوة إلى الله تحتاج إلى أن يتميَّز المسلم بأمور دنياه، بل ويبدع؛ فيوسف عليه السَّلام كان وزيراً وأميناً على خزائن الأمَّة، وذو القرنين كان حاكمَ الدنيا شرقاً وغرباً وكان مبدع بعلم هندسة الجسور وبنى جسر يعدُّ من أعاجيب الدنيا، وسيّدنا داود أبدع بفضل من الله بعمله بالحدادة، فكان يصنع الدروع، ونبينا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم كان يرعى الغنم وبرع بالتجارة، وعثمان بن عفان كان من أغنى أغنياء الصَّحابة.

وليس الأنبياء والصَّحابة فقط فكان محمد بن زكريا الرازي منارة سبقت العلم الحديث في إنارة العلم بكشوفه ومؤلفاته، فكان باحثاً علميّاً، فهو أول مبتكر لخيوط الجراحة الطبية، كما كان معلّماً يدرس الكتب الطبية، ويلقي المحاضرات، ويعلم الطلبة فيما يشبه كليات الطب الآن وكان مثالا للإنسان المسلم، ولم يكتفِ بالتدريس، بل دوَّن ما توصل إليه في كتب عديدة أحصاها ابن النديم في 113 كتاباً و28 رسالة.

ومضى إبراهيم يقول:"علينا التخلص من الكسل ولتعلو همتنا في أمور دنيانا لنرتقي بعملنا ونتفاعل مع حياتنا، ولا عيب على الداعية أن يكون متفاعلاً مع مناشط الحياة الدنيوية، وفي الوقت ذاته هو إنسان مسلم يقيم ما عليه من العبادات".

ويشير إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى يخبرنا في محكم تنزيله أنَّه سخَّر لنا البحر وما في السَّموات وما في الأرض لنستخرجه ونستغله، ولكن في الوقت الذي انسحب به المسلمون من عمل الدّنيا ملأ مكانهم الغرب واستثمر خيرات الأرض واستقوى علينا بها.

أدوات التأثير

في المحور ذاته، يتحدَّث محاضر الشريعة في الجامعة الإسلامية بغزة د. صادق قنديل ويقول:"إنَّ الدَّاعية إن أراد أن يؤثر في بيئته، فلا بد أن يمتلك أدوات التأثير وإلاَّ فإنَّ نمطه سيكون تقليدياً ولن ينجح والأدوات هي العلم بأمور الدنيا والدين، فلا يكتفي بعلوم الدّين، والجاه الذي يحمل معنى الحكمة وبالإضافة إلى ذلك المال".
ويضيف:"لقد كان من أوائل الصَّحابة رضوان الله عليهم الذين لحقوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم خيار القوم من أصحاب المال والجاه والسلطان، وكان للنبي بصمة في كل بيت وحرص على أن يكون له تأثير في كل شعب من شعاب مكة وفي كل بطن من بطون الجزيرة العربية، لذلك اختار أولائك الصَّحابة من أصحاب المال والجاه والسلطان فهم يمتلكون أدوات التأثير وهذا ما ساعده على النجاح".

ويوضح أنَّ الدَّاعية يمكن أن يمتلك العلم الدنيوي بسهولة فوسائله منتشرة في كل مكان، مشيراً أنَّ العلم يساعد الدَّاعية على فهم النفس الإنسانية ليعرف كيف يخاطب الناس ويتعامل معهم ويفهم عاداتهم وتقاليدهم، فإنَّ فهم طبيعتهم سيحقق نجاحاً هائلاً في دعوته.

أمَّا في جانب المال –كما يقول قنديل- فإنَّ امتلاك الدَّاعية للمال أمر مهم، ففيه يمتلك نفوس الفقراء ولن يحصل الإنسان ذو الهمَّة المنخفضة على المال، فهو يحتاج إلى العمل والجد في أمور الدنيا وهو ما يحتاج إلى همة عالية ونشاط دائم. وأداة التأثير الثالثة هي الجاه والمقصود به التفاف الناس حول الدَّاعية لحكمته وسداد رأيه، وهذا لا يأتي إلاَّ من كثرة التجارب في الحياة الدنيا، كما يقول أستاذ الشريعة.

ويبيّن قنديل أنَّ الطبيب والمدرّس والمهندس بتفوقهم وأخلاقهم وإبداعاتهم هم دعاة إلى الله يعكسون صورة الأمَّة الإسلامية ويؤثرون على الجميع أكثر من الخطب والدروس والمواعظ التي تلقى في المساجد.

ويقول:"إنَّ الدَّعوة ممارسة؛ لأنَّ الشرعية الإسلامية تتكون من خمس أركان هي العقائد والعبادات والأخلاق والمعالات والحدود أربعة منها كلها ممارسة فالعبادات والأخلاق والمعاملات والحدود هي ممارسة عملية، فالطبيب المسلم عندما يتقن عمله ويبدع فيه يعكس صورة الإنسان المسلم، وكذلك أصحاب المهن الأخرى فالممارسة تحمل رسائل عظيمة وتترك أثر وبصمة واضحة في الحياة إذا كانت إيجابية".

ولعلَّ من أعظم أمثلة علو الهمَّة ذكرته صفحات التاريخ الماسية في سيرة القائد الداهية أبي مسلم الخراساني الذي وطَّد أركان الدولة العبَّاسية وكانت طموحاته عظيمة تدفعه إليها همَّته العالية حتَّى إنّه عندما كان صغيراً كانت أمّه تراه يتقلب على فراشه وتقول متعجبة:"أي بني ما بك؟" فيرد عليها بعيون لامعة  كالماس "همّة يا أمي تناطح الجبال".

ونقشت مقولة الأديب مصطفى صادق الرافعي "إن لم تزد على حياة شيئاً تكن أنت زائدا عليها" بحروف من نور في سماء الهمَّة، فعلى الدَّاعية أن يسموا بهمته في أمور الدنيا حتى يصبح مضرباً للمثل في كل أمر.

"ليحدد الدَّاعية هدفاً له، ثمَّ يبدأ بوضع خطة وينفذه؛ فمثلا هناك الكثير من الدُّعاة الذين يلقون الخطب على المنابر لا يفقهون شيئاً في الإنترنت ووسائل التكنولوجيا، فهؤلاء عليهم أن يبدؤوا ويتعلّموا كلَّ ما غفلوا عنه من أمور الدنيا".

خطوات نحو الهمَّة ..

صديقي الدَّاعية إن أردت أن ترفع من همتك وتحمل مشاعل الإرادة أحضر ورقة وقلماً، وسجل خطواتك نحو علوّ الهمَّة التي تحدث عنها د.إبراهيم.

يقول:"بشكل عام نحن بحاجة إلى خطوة أولى وهي التوعية وزرع ثقافة التفاعل مع الدنيا كما يحدّدها الشرع في نفوس المسلمين؛ فكل ربّ أسرة يعلم أبناءه ويثقفهم، وعلى الدولة أن تنشر ذلك بين مواطنيها، والخطوة الثانية أن لا يحصر الدَّاعية نفسه في جانب محدّد من أمور الدّين، فينبغي عليه الانفتاح على الدنيا".

ويتابع:"ليحدد الدَّاعية هدفاً له، ثمَّ يبدأ بوضع خطة وينفذه؛ فمثلا هناك الكثير من الدُّعاة الذين يلقون الخطب على المنابر لا يفقهون شيئاً في الإنترنت ووسائل التكنولوجيا، فهؤلاء عليهم أن يبدؤوا ويتعلّموا كلَّ ما غفلوا عنه من أمور الدنيا".

ويوضح د. إبراهيم أنَّ إبداع المسلم في أمور الدنيا يعود عليه بالمستوى الشخصي بالفائدة وينمّي شخصيته ويطوّرها، وأيضاً يخدم أمته بهذه العلوم، فهناك المئات من المنشدين والمهندسين قهروا الاحتلال بأصواتهم وصناعاتهم.

ويلفت إلى أنَّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أصحاب همم عالية في أمور الدنيا؛ فكان خالد بن الوليد قائداً عسكرياً عملاقاً، وأهل المدينة برعوا بالزراعة، ومسلمون آخرون احترفوا الصناعات العسكرية، وهناك صحابة تعلّموا اللغات السريانية والعبرية، وفئة كانوا أصحاب مال كثير خدموا فيه الإسلام والمسلمين ولم يكتفوا بإلقاء الخطب والمواعظ.

ويشير الدَّاعية د.إبراهيم إلى شروط للولوج إلى الدنيا والتفاعل معها؛ ومن أهمها استثمار ما في الدنيا لخدمة الدّين، وعدم الابتعاد عن شرع الله والتزام أحكامه، والتفاعل يجب أن يكون في أعلى درجات الإتقان.

ولعلَّ الكثير من الدّعاة يخشون الفشل في أمور دنياهم، وهنا يجيبهم الشيخ عائض القرني في كتابه لا تحزن فيقول:"إذا داهمتك داهيةً فانظر في الجانب المشرق منها، وإذا ناولك أحدهم كوب ليمون فأضف إليه حفنة من السكر، وإذا أهدي لك ثعباناً فخذ جلده الثمين واترك باقيه، وإذا لدغتك عقرب فاعلم أنَّه مصلٌ واقٍ ومناعةٍ حصينةٍ ضد سمّ الحيّات".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
صحفية فلسطينية مقيمة في قطاع غزة، حاصلة على درجة البكالوريوس في الصحافة والاعلام من الجامعة الاسلامية بغزة عام 2011م، وكاتبة في موقع "بصائر" الإلكتروني، وصحيفة "الشباب" الصادرة شهرياً عن الكتلة الاسلامية في قطاع غزة. وعملت في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية أبرزها صحيفة فلسطين، وصحيفة نور الاقتصادية، وصحيفة العربي الجديد.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …