اختار الله سبحانه جبريل عليه السلام ليكون أمين الوحي، وينقل الرسالة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقد قام جبريل بتبليغ القرآن والسنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جاء وصف جبريل عليه السلام في القرآن الكريم، بصفات لها أهميتها في بيان دقة نقل القرآن وتبليغه. قال تعالى: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } [التكوير/19-21]، وقال تعالى: {علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم/5-10] وقال تعالى:{نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء/193-195].
وفي السياق نفسه جاء قوله تعالى: {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون} [الشعراء/210-212].
وفيما يلي بيان لهذه الأوصاف ودلالتها على حفظ القرآن الكريم:
في سورة التكوير وُصِفَ جبريل بأنه (رسول، كريم، ذو قوة، مكين، مطاع، أمين) فصفة رسول للدلالة على أنه حامل رسالة، ومأمور أن يبلغها ويؤديها على وجهها وهيئتها، دون زيادة أو نقصان أو تحريف: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين}.
وصفة كريم لها دلالتان رئيستان، إحداهما أن له كرامة عظيمة عند الله، وهذا على جعل كريم بمعنى مُكرَم (بفتح الراء). والثانية أنه كريم بمعنى جواد، وهذا يعني أنه يجود بما عنده دون أن يدخر شيئاً، ولهذا دلالته الواضحة على أن أمين الوحي بلغ جميع ما أُمر بتبليغه، لم يكتم منه شيئاً.
وصفة ذي قوة تدل على عِظَمِ خِلقته وشدة قوته، ولا عجب فهو سيد الملائكة جميعاً، وأفضلهم وأكرمهم عند الله سبحانه، وقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن(له ستمائة جناح)(1)، وقد رآه الرسول صلى الله عليه وسلم على هيئته التي خُلق عليها مرتين، كما جاء في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} [سورة النجم/13-14].
وهذه الصفة لها أهميتها في الدلالة على أن القرآن أُنزل محفوظاً محروساً، ولم تستطع الشياطين أن تقترب من مصدره، أو تصل إليه، وقد كان المشركون يزعمون أن الشياطين تسترق السمع وتأخذ الوحي وتحرفه كما تريد(2). وردَّ القرآن الكريم عليهم بقولـه تعالـى : {ومـا تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون، إنهم عن السمع لمعزولون} [الشعراء/210-212].
وصفة مكين لها دلالة بالغة على حفظ القرآن الكريم، فالمكين صيغة مبالغة دالة على عظم المكانة التي لجبريل عليه الصلاة والسلام، عند ربه سبحانه، وما دام الأمر كذلك فحريٌّ بالمكين أن يَحفظ مكانته بالطاعة والامتثال والتزام ما يؤمر ويكلف به.
وصفة مطاع تدل على أن جبريل عليه الصلاة والسلام، تطيعه الملائكة، وتسارع إلى تنفيذ أمره وهذا يؤكد عظم مكانته ورفعة قدره عند الله سبحانه، فجند الله مـن الملائكـة أعـداد كثيرة لا يعلمها إلا الله سبحانه {وما يعلم جنود ربك إلا هـو}
وصفة أمين تدل بشكل مباشر على أمانة التبليغ، وإيصال الرسالة كاملة كما أنزلها الله سبحانه(3).
وفي سورة النجم وُصِفَ جبريل عليه الصلاة والسلام بقول الله تعالى: {علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى} [النجم/ 5-6].
فهو معلم، يعلم النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره الله سبحانه، وفي هذا أبلغ رد على الذين اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تعلم القرآن من بشر. وهو شديد القوى، ذو مِرّة، والمرّة الشدة والقوة، وقد سبق الحديث عن هذه الصفة.
وفي سورة الشعراء وُصِفَ جبريل عليه الصلاة والسلام بأنه (الروح الأمين). وكلمة الروح دالة على معنى سر الحياة وأصل وجودها، إذ لا حياة لجسد بلا روح، وكما وُصِفَ جبريل بأنه روح، لنزوله بالقرآن، وُصِفَ القرآن الكريم بأنه روح في نحو قوله تعالى: {وكذلـك أوحينـا إليـك روحـاً من أمرنا...} [الشورى/52].
--------------------
الهوامش
(1) صحيح البخاري 4/115، رقم (3232).
(2) قال ابن كثير::"نزل به الروح الأمين المؤيد من الله (وما تنزلت به الشياطين) ثم ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ليس من بغيتهم ولا طلبتهم، لأنهم مفسدون والقرآن نور وهدىً وبرهان عظيم، وأنهم لا يستطيعون ذلك لقوله تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) ولو استطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء ملئت حرساً شديداً وشهباً في مدة إنزال القرآن على الرسول فلم يستمع أحد من الشياطين حرفاً.. وهذا من رحمة الله بعباده وحفظه لشرعه وتأييده لكتابه ورسوله" ا.هـ. بتصرف. انظر: تفسير القرآن العظيم/ لابن كثير(4/329-330). فإذا أضيف إلى ذلك ما وُصِفَ به جبريل عليه الصلاة والسلام من أمانة وقوة وشدة، تأكد أن القرآن أنزل محفوظاً كما أمر الله سبحانه.
(3) انظر: معالم التنزيل للبغوي (4/454)، وتفسير القرآن العظيم/ لابن كثير (6/358).