بنت الشاطىء..مدرسة في البحث عن التعلّم

الرئيسية » بصائر للأسرة والمرأة » بنت الشاطىء..مدرسة في البحث عن التعلّم
alt

فتحت أبواب المدارس وبدأ العام الدّراسي من جديد، وعاد الطلاب والطالبات إلى مدارسهم وكتبهم ودراستهم، وعاد التململ من الدّراسة والمدرسة من قبل بعض الطلاب؛ الاستيقاظ والنوم المبكر..الامتحانات والواجبات .. النظام والانضباط...وهنا نستذكر شخصية فريدة ومتميّزة  في تحصيل المعرفة والسّعي الحثيث لتكوين الذات العلمية المتميزة على الرغم من كلِّ العوائق والعقبات.

في أوائل القرن العشرين فتاة مصرية كانت تتمنى أن تلتحق بالمدرسة، لتنهل من العلوم والمعرفة وتنهض بالأمَّة وتترك بصمة في تاريخ الأدب العربي الإسلامي، إلاَّ أنَّ التقاليد الصَّارمة لتعليم النساء وقتئذ حصر تعليم الفتيات في منازلهن أو في مدارس القرآن ( الكُتّاب).

عائشة بنت عبد الرحمن المولودة سنة 1913، عاشت في ملعب طفولتها على شط النيل بمدينة دمياط، وكان أبوها معلّماً بمدرسة دمياط الإبتدائية، فتلقت مبادئ القراءة والكتابة على يده قبل أن تبلغ الخامسة، ثمَّ أودعت كُـتَّاب القرية لتحفيظ القرآن الكريم، فكانت تذهب من مطلع الشمس إلى غروبها ستة أيام من الأسبوع،تعلُّمَت المبادئ الأولية للعلوم العربية والإسلامية، وكان أبوها يصحبها إلى المكتبة لتحفظ دروسها.ستبقى بنت الشاطئ خالدة في ذاكرة الأمَّة الإسلامية تروي من خلال غزارة إنتاجها قصة المرأة المسلمة بنت وحفيدة علماء الأزهر، صاحبة القلم المجاهد في سبيل نهضة الأمَّة الإسلامية ورفعتها،

وفي عام 1920م، بدأت رحلة العناء في سبيل العلم، حيث كان أبوها أكبر عقبة في طريق ذهابها للمدرسة ، عندما طلبت منه الذهاب إلى المدرسة، جاءها الردُّ حازمًا وحاسمًا: «ليس لبنات المشايخ والعلماء أن يخرجن إلى المدارس الفاسدة المفسدة، وإنَّما يتعلّمن في بيوتهن».

ومضت بعد هذا الموقف أشهر عدّة  بان عليها الذبول والشرود والانطواء والهمّ  فما كان من أمها إلى أن تطلب من جدها الشيخ محمد الدمنهوجي التدخَّل، وما زال الشيخ الفاضل يلح على أبي عائشة حتّى وافق على التحاقها بمدرسة البنات مشترطًا أن تتابع دراستها الدينية في البيت، وأن تنقطع نهائيًا عن الخروج إلى المدرسة، بمجرد أن تشارف على البلوغ.

دخلت عائشة المدرسة وكانت أولى الناجحات في المرحلة الابتدائية، وبقي والدها بين حين وآخر يعترض على استمرارها  في المدرسة، وكان جدها السند لها والرفيق في طريقها العلمي، وكانت تقضي وقتها بين خدمته ودراستها، وكانت يوميا تقرأ له الجرائد، وهنا بدأ اتصالها بالصَّحافة.وما زالت رحلتها في طلب العلم والتعلم طويلة وشاقة ملأتها بالعزم والإصرار والمثابرة.

عندما بلغت الثالثة عشرة، كان عليها الالتحاق بمدرسة المعلمات بالمنصورة وتقديم امتحان القبول، وشاء الله عزَّ وجل أن يكون موعد الامتحان بغياب والدها عن دمياط، فاصطحبتها أمها إلى المنصورة وقدمت الامتحان والأوراق اللازمة، وحصلت الموافقة، وبدأت الدّوام مع معارضة والدها، وذات يوم فوجئت أنَّ والدها قد سحبَ كلَّ أوراقها من المعهد بصفته ولي أمرها، فكانت الصَّدمة فامتنعت عن الطعام، وتكاثر الأهل وزملاء والدها عليه، فلم يدعه حتّى وعد بأن يرسل خطابًا إلى المدرسة..

وعندما أرادت العودة إلى مدرستها،  تفاجأت بأنَّ المدرسة قد استنفدت كل العدد المقرّر قبوله من الطالبات، وعليها أن تلتحق بمدرسة جديدة للمعلمات في حلوان، فباعت أمها سوارة ذهبيّة كانت لها، وذهبت معها إلى حلوان لإكمال دراستها، وما زال المشوار في بدايته....

وانتقلت فيما بعد إلى  مدرسة بطنطا، وجاءها نبأ وفاة  جدّها، الشيخ الذي كانت تلجأ إليه أمام إصرار أبيها على حجزها في البيت، فعاد إلى حجزها وردها إلى الطريق المستقيم الذي انحرفت عنه..
 فأصيبت عائشة بانهيار عصبي، وانقطعت عن المدرسة، وتقرّر شطب اسمها من سجل طالباتها، لعجزها عن الانتظام في الدراسة..

حبّها وشغفها بمدرستها وعلمها جعلها لا تيأس، وتعود نشيطة وبهمة عالية من جديد، فاستعارت من صديقاتها الكتب المدرسية وبدأت في تعويض ما فاتها والتحقت بشهادة الكفاءة للمعلمات، أمام لجنة مدرسة طنطا خفية عن أبيها، وفي الامتحان وجد منها تفوّقاً مميّزاً، وطلب منها أن تلقي قصيدة من قصائدها، فأنشدتهم قصيدة لها في الحنين إلى دمياط مطلعها:
دمياطُ حبكِ حركتْ أشجانَه آلام قلبٍ في الغرام مصفدِ

وخرجتْ من الامتحان سنة 1929م، وهي الناجحة الأولى على مستوى القطر المصري، وآثرتْ أن تلتحق بالعمل في مدرسة البنات الملحق بمعلمات المنصورة، على أن تكمل دراستها في  الجامعة لتقيم في القسم الداخلي بها، بمنأى عن جوّ بيتها المشحون .

حصلت على الشهادة الثانوية عام 1931م، والتحقت بجامعة القاهرة لتتخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية 1939، ثمَّ تنال الماجستير بمرتبة الشرف الأولى عام 1941، وقد تزوّجت أستاذها بالجامعة الأستاذ "أمين الخولي" أحد قمم الفكر والثقافة في مصر حينئذ، وصاحب الصالون الأدبي والفكري الشهير بـ"مدرسة الأمناء"، وأنجبت منه ثلاثة أبناء، وهي تواصل مسيرتها العلمية لتنال رسالة الدكتوراه عام 1950م، ويناقشها الدكتور طه حسين.

تنقلت بين الوظائف والمناصب التالية: معيدة ومدرّسة مساعدة في كلّية الآداب، في جامعة القاهرة، مفتشة اللغة العربية في وزارة التعليم في مصر، أستاذة مساعدة بجامعة عين شمس، أستاذة منتدبة للاشراف على بحوث الماجستير والدكتوراه في جامعة الأزهر، أستاذ الدّراسات العليا في جامعة القرويين بالمغرب، وأستاذة التفسير في كلّية الشريعة في فاس، مستشارة الدراسات العليا في كلّية البنات الجامعية في الرّياض.

أخذت عائشة على عاتقها قضية تعليم المرأة واعتبرتها أساساً مهماً يرتكز عليه تنشئة الجيل في المجتمع المسلم، فسعت من خلال كتاباتها التاريخية التي صاغتها بقالب أدبي عن سيّدات بيت النبوة، إلى إبراز شخصية المرأة المسلمة، والمعلّمة المجاهدة، ودعمت من خلال مؤلفاتها أهمية دور المرأة وأهمية تعليمها وعدم الاستهانة بدورها في تطوير المجتمع الإسلامي والنهوض به من براثن التهميش.

وتركت بنت الشاطئ وراءها ما يربو على الأربعين كتابًا في الدّراسات الفقهية والإسلامية والتاريخية؛ منها: التفسير البياني للقرآن الكريم، والقرآن وقضايا الإنسان، وتراجم سيدات بيت النبوة،السيدة زينب، بطلة كربلاء، مع المصطفى صلى الله عليه وسلّم، القرآن وقضايا الإنسان.

وقامت بتحقيق الكثير  من النصوص والوثائق والمخطوطات، ولها دراسات لغوية وأدبية منها: نص رسالة الغفران للمعري، والخنساء الشاعرة العربية الأولى، ومقدّمة في المنهج، وقيم جديدة للأدب العربي، وكتاب (على الجسر) في سيرتها الذاتية.

كما شاركت في العديد من المؤتمرات الدولية في كلّ هذه المجالات، وقد جاوزت شهرتها أقطار الوطن العربي والإسلامي، وكانت كتاباتها موضوعًا لدراسات غربية ورسائل جامعية في الغرب، وفي أوزبكستان واليابان.

ويرجع لقبها المستعار بنت الشاطئ، عندما كانت تكتب وهي في الثمانية عشر من عمرها في جريدة النهضة النسائية، أحبّت عائشة هذا الاسم كثيراً لما له من ذكريات طفولية في نفسها على شاطئ النيل حيث قضت طفولتها، ففضلت أن تكتب به نظراً لشدّة محافظة أسرتها، خاصة وأنَّ المرأة في تلك المرحلة لم تتمتع بحقها في التعليم، بل وفي الكتابة عبر الصحافة.
و
قد حظيت د.عائشة عبد الرحمن بمكانة رفيعة في أنحاء العالم العربي والإسلامي، وكرّمتها الدول والمؤسسات الإسلامية؛ فنالت جائزة الملك فيصل، واستحقت عضوية مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، وكرّمها ملك المغرب، ونالت جائزة المجمع اللغوي لتحقيق النصوص، وجائزة المجمع اللغوي للقصة القصيرة، والجائزة الأولى للحكومة المصرية في الدّراسات الاجتماعية والريف المصري، ووسام الكفاءة الفكرية من حضرة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني، عاهل المغرب، وهي عضو مجلس مركز تحقيق التراث في دار الكتب المصرية، وأيضاً أَطلق اسمها علي الكثير من المدارس وقاعات المحاضرات في العديد من الدول العربية.

وبهذا الكفاح الطويل في سبيل المعرفة على مدى ثمانين عامًا استحقت عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) الخلود في الذّاكرة العلمية عبر الأجيال.. وقد أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية عند وفاتها في مطلع ديسمبر 1998عن إقامة سرادق لتقبّل العزاء فيها، في لفتة نادرة تعكس مكانة بنت الشاطئ من الخليج إلى المحيط، وودعتها مصر في جنازة مهيبة حضرها العلماء والأدباء والمثقفون الذين جاؤوا من شتى الدول، ونعاها شيخ الأزهر.

ستبقى بنت الشاطئ خالدة في ذاكرة الأمَّة الإسلامية تروي من خلال غزارة إنتاجها قصة المرأة المسلمة بنت وحفيدة علماء الأزهر، صاحبة القلم المجاهد في سبيل نهضة الأمَّة الإسلامية ورفعتها، رحم الله عائشة عبد الرَّحمن، وأسكنها فسيح جناته بما سطره قلمها الأغرّ من حروف أضاءت صفحات مشرقة في سجل الحضارة الإسلامية.

 

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

إقرار أول قانون للحماية من العنف المنزلي في السعودية

قال مسؤول في مجال حقوق الإنسان إن السعودية أقرت قانونا مهماً يهدف إلى حماية النساء …