على طريق التكامل المعرفي-بقلم:حميد بن خيبش

الرئيسية » حصاد الفكر » على طريق التكامل المعرفي-بقلم:حميد بن خيبش
alt

قديمًا قال الشافعي:

           لن يبلغ العلم جميعا أحد           لا ولو حـــاوله ألفـي سنة

           إنمــا العلــم عميق بحره           فخذ من كل شيء أحسنه.

واشترط المربون الأوائل وفي مقدمتهم “بدر الدين بن جماعة” أن ينهل المعلم من الثقافة العامة إلى جانب تمكنه من مادته العلمية, وألا يدع باب علم من العلوم أو فن من الفنون إلا طرقه “فإن ساعده القدر وطول العمر على التبحر فيه فذاك, وإلا فقد استفاد منه ما يخرج من عداوة الجهل بذلك العلم, ويعتني من كل علم بالأهم فالأهم”.

فكان العالم إلى جانب تخصصه في مادته العلمية لا يستنكف النظر في باقي العلوم توسيعًا لأفقه وتخصيبًا لمجال اهتمامه, وكانت المنهجية المعتمدة هي البدء بالمختصر في كل فن لضبط مصطلحه, والإلمام بأصوله وحقائقه, ثم مباحثة أهل التخصص فيه ليتحقق التكامل المعرفي.

لكن رغبة البلاد العربية والإسلامية في ردم ما تيسر من الفجوة المعرفية, واللحوق بركب التقدم ألزمها الأخذ بنظم التعليم الحديثة التي تقوم على مبدأ التخصص بالنظر إلى استحالة تحصيل الكم الهائل من المعارف التي تزداد بوتيرة مذهلة, وتم صوغ المناهج والمقررات وفق معايير جديدة ترهن التفوق بإتقان مادة التخصص, وتقرن درجة العلمية ببلوغ مستوى معين من التحصيل في فرع معرفي واحد!

توزع الطلاب بين شعبتي المعارف الإنسانية والمعارف العلمية, ودفع الحرص على تحقيق أفضل المخرجات إلى نشوء هوة مصطنعة بين ثقافتين: ثقافة علمية وأخرى إنسانية مما كان له بالغ الأثر على الحياة الفكرية داخل المجتمع. وبتنا نشاهد متخصصين في المعارف الإنسانية من فلسفة وأدب وسياسة لا دراية لهم بالقضايا العلمية ذات الصلة بشئون الحياة اليومية, كما انزوى العلماء في مختبراتهم الضيقة ليتابعوا بحوثهم وتجاربهم العلمية التي لا تخلو بالتأكيد من فائدة, لكنها مقطوعة الصلة بالتقلبات الفكرية والمجتمعية التي تحدث كل لحظة خلف جدران المختبر!

في كتابه “لماذا العلم؟” يستعرض أستاذ الفيزياء بجامعة جورج ماسون “جيمس تريفيل” الأستاذ – وهو بالمناسبة واضع قاموس “المعارف الأوليَّة الثقافيَّة” – مخلفات الهوة الفاصلة بين الثقافتين العلمية “طب, فيزياء, هندسة” والإنسانية “أدب, فلسفة…” وعن الخلل الفكري الذي يسببه هذا الانفصال والذي تبدو إحدى أهم تجلياته في العداء الخفي والمعلن للعلماء من لدن المثقفين من جهة, وانزواء العلماء عن الإسهام في الحياة العامة من جهة أخرى.

وبأسلوبٍ شيّق متمرّس يضع جيمس يده على موطن الداء فيوجه إصبع الاتهام للمناهج الدراسية التي زكَّت هذا الفصل عن حسن نية من خلال حرصها المبالغ فيه على تخريج أفضل العلماء في سائر القطاعات, مما دفعها إلى حشو المقررات العلمية بشكلٍ يحول دون تمكين طالب العلوم من فرصة الإطلاع على ما حوله من معارف إنسانيَّة تحافظ على صلته بالمجتمع وتمكنه من الاندماج في البناء الاجتماعي بشكل يؤهله لأن يؤدي دوره انطلاقًا من التصاق دائم بواقعه, كما يُعيق طالب المعارف الإنسانية عن تحصيل القدر اللازم من الثقافة العلمية التي تتيح له المشاركة الايجابية في مواجهة القضايا الوطنية والكونية ذات الأبعاد العلمية كالتلوث والاحتباس الحراري والطاقة النووية.

يكشف الكاتب عن خلل جوهري في نظام التعليم الأمريكي يتمثل في ضعف الثقافة العلمية لدى الطلاب الذين لم يعتزموا متابعة دراستهم في المجال العلمي, وكيف أن هذا الخلل تولد عنه ضعف في الحياة الفكرية الأمريكية!

ثم يستعرض الجهود التي بذلها بعض رواد الفكر التربوي الأمريكي, وفي مقدمتهم جون ديوي, من أجل تضمين المقررات الدراسية قسطًا وافرًا من المعارف العلمية, لتمكين الطلاب من اكتساب ما يسميه ديوي “عادة العقل العلمية”. كما يبسط الحديث عن بدايات الجدل حول العلم والثقافة والهوة بين الثقافتين والذي دشنته محاضرة لعالم الكيمياء والروائي البريطاني “تشارلز بيرسي سنو” بجماعة كمبريدج عام 1959 تحت عنوان “الثقافتان والثورة العلمية” وكشف فيها عن العداء الخفي بين الثقافتين كنتيجة للفصل الحاد بينهما عل مستوى المناهج الدراسية.

ثم يختم الكتاب بوضع تصور عام لمحو الأمية الثقافية العلمية, وتحسين الرصيد القومي من المواطنين المؤهلين لمواجهة القضايا المصيرية ذات الأساس العلمي..

المثير حقًا أنَّ الكاتب يبث شكواه حول النظام التعليمي الأمريكي الذي تنافح نظمنا التربوية لتثبيت قوالبه ونماذجه في وسط عربي إسلامي له خصوصيته ومرجعيته المغايرة.. فكم علينا أن ننتظر لنستوعب مقولة “كارل ساغان” المؤثرة التي ختم بها المؤلف كتابه الشيّق:

“خططنا لحضارة كوكبية تعتمد أكثر عناصرها حسمًا على العلم والتكنولوجيا. وخططنا كذلك لأمور بحيث لا أحد يفهم العلم والتكنولوجيا. وهذه وصفة لكارثة!”

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …