يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)﴾ [سُورة "قُريش"].. فمن بين أهم ما أنعم الله تعالى به على الإنسان نعمة الأمن والأمان، ولولا الأمن والأمان ما كان استطاع الإنسان على مستوى الفرد والمجتمع، أن يعيش حياةً سويَّةً، مُنتِجة ويتطور بها يومًا بعد يوم.
ويقول الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" في حديثه الذي أخرجه البخاري في صحيحه: "مَن أصبح آمنًا في سربه معافًا في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حُيِّزت له الدنيا بحذافيرها" .
ولقد أثبتت الدّراسات العلميَّة في مجال العلوم الاجتماعيَّة أنَّ حاجات الإنسان الأساسيَّة والأرقى في سلّم الحاجات الإنسانيَّة لا يمكن لها أن تتحقّق ما لم يتحقق أولاً للإنسان حاجته للأمن؛ حيث يشير هرم الحاجات الإنسانيَّة الذي وضعه عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو (1908- 1970م) إلى أنَّ الحاجة إلى الأمن تسبق حتّى الحاجات الفسيولوجيَّة التي يحيا بها الإنسان.
وأرقى ألوان الأمن وأعلاها في سلم الدراسات والعلوم السياسيَّة والاجتماعيَّة هو الأمن المجتمعي، فهو ذلك الجانب من الأمان الذي يرتبط بالمجتمع ككل، ويرتبط أيضًا بالكثير من الممارسات والمقومات التي إن توافرت؛ فإنَّ ذلك يكون بمثابة شهادة على تطور ورقي هذا المجتمع.
الأمن الاجتماعي من المنظور الشرعي للإسلام، و "الطمأنينة التي تنفي الخوف والفزع عن الإنسان، فردًا أو جماعةً
وبدايةً، يُعرِّف المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة الأمن الاجتماعي من المنظور الشرعي للإسلام، على أنَّه "الطمأنينة التي تنفي الخوف والفزع عن الإنسان، فردًا أو جماعةً، في سائر ميادين العمران الدنيوي في الزَّمن الحاضر والآتي، بل وأيضًا في المعاد الأخروي فيما وراء هذه الحياة".
ومن الشروط الأصوليَّة لتحقيق نعمة الأمن الاجتماعي كما حدّدتها شريعة الإسلام، الإيمان والعمل الصّالح، بالإضافة إلى تحقيق سنة الاستخلاف في عمارة الأرض، واستيفاء شروط التمكين الإنساني لهذه السُّنَّة.
وفي القرآن الكريم، أكثر من آية تتناول هذه القضيَّة، ومن بينها آية سورة "النُّور"؛ يقول الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَبَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾.
ولإدراك أهميَّة قضيَّة الأمن المجتمعي كما حدّدها الإسلام، فإنَّ علماء الأمَّة ربطوا ما بين مستهدفات الأمن المجتمعي ونتائجه، وبين المقاصد الخمس التي نُزِّلت الشريعة الإسلاميَّة من لدُن حكيم عليم، وهي:
وهذه الضرورات الخمس هي: الحفاظ على الدِّين، وإقامته، والحفاظ على النفس أي: الحفاظ على الإنسان، خليفة الله سبحانه وتعالى في الأرض، والحفاظ على العقل الإنساني، ثمَّ الحفاظ على النّسل، فالحفاظ على المال.
وترتبط كلٍّ من هذه المقاصد الخمس بعدد من الجوانب ذات الطبيعة الاجتماعيَّة، فحفظ الدّين يرتبط بإقامة شعائر الله تعالى وتعاليمه، بما فيها مكارم الأخلاق والمعاملات، وهي الضمانة الأساسيَّة لاستقرار أيّ مجتمعٍ وصيرورته بشكلٍ سويٍّ، والحفاظ على النسل يرتبط بالحفاظ على النسب والعرض، بما يضمن أيضًا استقرار المجتمع الإنساني، كذلك الحفاظ على المال يرتبط بالكسب الحلال والإنفاق الرشيد، وما يرتبط به ذلك من تكافل مجتمعي.
وهناك العديد من القواعد والأخلاقيَّات الاجتماعيَّة التي تضمن تحقيق الأمن المجتمعي، ومن بينها التكافل الاجتماعي، والانتماء للوطن؛ حيث إنَّ انتماء الإنسان إلى وطنه وإخلاصه له، يعني أن يُساهم الإنسان في الحفاظ على مقدرات الوطن وثرواته.
كما إنَّ هناك جانبًا اقتصاديًّا شديد الأهميَّة لقضيَّة الأمن المجتمعي في الإسلام، فالكثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبويَّة الشريفة، تربط ما بين الرزق والأمن، وتجعل من من الخوف رديفًا للجوع والعَوَز والفقر.
وإلى بجانب آيات سُورة "قريش"- ﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾-وحديث البخاري السَّابق، هناك آية وردت في سورة "النَّحل" تؤكد ذلك، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾، وهنا أيضًا يُلاحظ أنَّ الأمن مرتبط بالإيمان، كما هو مرتبط بالرِّزق.
ويقول الله تعالى أيضًا: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)﴾ [سُورة "القَصَص"].
قراءة سياسيَّة ومؤسسيَّة
على أهميَّة النواحي الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة لقضيَّة الأمن المجتمعي في الإسلام؛ إلاَّ أنَّ الجوانب الحاكمة في هذا الإطار، من وجهة نظر الكثيرين، هي تلك الجوانب السياسيَّة والمؤسسيَّة والتشريعيَّة التي تضمن استقرار صيرورة هذه القواعد المؤطِّرة للأمن المجتمعي.
فالسياسة، والتي تعني إدارة شؤون الجماعة الإنسانيَّة من مختلف جوانبها، من جانب السلطة الحاكمة، والمؤسسات والقوانين، والتي تعدُّ الأذرع التنفيذيَّة للسلطة الحاكمة لضبط وتوجيه المجتمع وفق الرّؤية والمصلحة العامة، ووفق مقتضيات الشّرع ومقاصده، هي الأطر العامة التي يسير المجتمع في إطارها، والتي تضبط حركته وتوجهه، ومن ثَمَّ لا يوجد نشاط اجتماعي أو اقتصادي ناجح، أو قابل للاستمرار كما يريد المجتمع، من دون إطارٍ قواعد ملزمة تعمل السلطة الحاكمة من خلال مسارات مؤسسيَّة وتشريعيَّة على ضمانها.
ولا تُعدُّ هذه الحقيقة وليدة دراسات علوم السياسة والاجتماع في عصرنا الحالي؛ حيث هي موجودة أيضًا في مدركات علماء المسلمين في مرحلة ازدهار الحضارة الإسلاميَّة.
فالإمام أبو الحسن البصري الماوردي، والذي يُعدُّ من أهم من كتب في الفقه السياسي في عهد الدولة العباسيَّة، وربما في التاريخ الإسلامي، عندما حدّد قواعد واشتراطات صلاح الدنيا في كتبه الأهم في هذا المجال، مثل "أدب الدنيا والدين" و"الأحكام السلطانيَّة"؛ فإنَّه من بين هذه القواعد نجد قاعدة الأمن العام، ووضعها بعد الدين المُتَّبع والسّلطان القاهر والعدل الشامل.
الأمن المجتمعي وفق رؤية الماوردي، لا يتحقق إلاَّ من خلال سيادة الدين ووجود السلطان والعدل
أي أن الأمن المجتمعي وفق رؤية الماوردي، لا يتحقق إلاَّ من خلال سيادة الدين ووجود السلطان والعدل، أيًّا ما كانت صورة هذا السلطان والعدل، قوانين أو مؤسسات أو غير ذلك.
ومن ثَمَّ، وإذا ما نقلنا المصطلحات المستخدمة لدى الماوردي، إلى لغة أكثر حداثة أو عصريَّة، سوف نجد أنفسنا أمام مجموعة من الاشتراطات التي تشكِّل فيما بينها منظومة شديدة المتانة تضمن تحقيق الأمن المجتمعي بمعناه المتقدم، وهي تلك المعروفة بمنظومة الحكم الرشيد "Good role" التي تراعي اعتبارات الشفافية والمساءلة في الحكم، وتعتمد مبدأَيْ سيادة القانون والمؤسسيَّة في إدارة الدولة وشؤون الناس، بعيدًا عن الفساد والمحسوبيَّة والتمييز، مع ما يرتبط بذلك بطبيعة الحال بمفاهيم احترام حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة من خلال صناديق الاقتراع.
هذه المنظومة تضمن العدالة ما بين فئات وطوائف المجتمع ككل، على مستوى الجماعات والأفراد، خصوصًا لو اقترنت بسلسلةٍ من المؤسسات المتكاملة فيما بينها، وفي أدوارها، لضمان إنفاذ القانون من دون تمييز بما يحفظ حقوق الأفراد والجماعات، وهو ما يضمن عدم حدوث اضطرابات مدنيَّة أو اجتماعيَّة من أي نوع.
وأهم هذه المؤسسات، المؤسسة العدليَّة ممثلةً في القضاء بدرجاته المختلفة، وكذلك المؤسسة النيابيَّة؛ حيث يتم صياغة القوانين الضابطة والمحددة لإيقاع المجتمع، وصولاً إلى السلطة التنفيذيَّة التي تقوم على تنفيذ القوانين والأحكام القضائيَّة بشفافيَّة وحياديَّة من دون انحياز لطرف على حساب الطرف الآخر، وهو ما يضمن الاستقرار والأمن المجتمعي بشكل مباشر.
وفي الأخير، فإنَّه من الأهميَّة بمكان إعادة التأكيد على أنَّ هذه المنظومة المؤسسيَّة والتشريعيَّة لن تقوم بدورها، من دون وجود حاكم عادل، يسير وفق المحدّدات الشرعيَّة التي تضمن صيانة مقاصد الشريعة، وتحقيق العدل في الأرض.