خلال تجوالي في روض المصطفى صلّى الله عليه وسلّم كنت أشعر بارتياح وانشراح عظيمين لما كنت أجده من الأنس والرَّوعة، غير أنّ شعوراً بالأسى والحزن كان يغمرني أحياناً لاسيّما عندما كنت أقع على أحاديث صحيحة لم أسمع بها من قبل، وما أبرّئ هنا نفسي عن فرط جهلها وقلة اطلاعها، فنحن جميعاً نحس بالتقصير الشديد تجاه كتاب ربنا وسنة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم.
مثار عجبي واستغرابي هو أن هناك أحاديث تحوي وصفات علاجية ثمينة يحتاجها كل واحد منا في كل وقت وفي كل حين وهي كالماء البارد للظمآن، ومع ذلك فإنها غير متداولة على المنابر أو في المنتديات أو في المناهج الدراسية، وهي غير شائعة بين الناس كما هو الحال مع بعض الأمثال أو الأشعار أو – ويا للأسف- بعض مقاطع الأغاني أو بعض تخاريف وخزعبلات العجائز.
كثير من رجالنا ونسائنا على حد سواء يصيبهم هوس البحث عن بعض الوصفات سواء كانت طبية علاجية شعبية أو دوائية أو وصفات غذائية لمطابخ عالمية، حتى إنك لتجد البعض ملمّا بوصفات لا تعد للحمية الغذائية (الريجيم)، وكثير من نسائنا يمضين السَّاعات الطوال لتسجيل وصفات غذائية خاصة بالمطبخ الإيطالي والمكسيكي والتركي والهندي وغيرها، وحلويات من شتى أصقاع الأرض. والبعض يفتي لك في أمراض الصيف والشتاء وما يتعلق منها بالأطفال أو الرجال أو النساء، فهو يحفظ وصفات تراثية وصلته كابراً عن كابر. ولا اعتراض لي على ذلك سوى أننا كثيراً ما نضع ثقتنا في غير موضعها فيتبين لنا أن الكثير من تلك الوصفات لا نفع منها ولا فائدة، هذا إن لم تتسبب بأضرار مادية أو صحية. كل ذلك في مقابل زهدنا في البحث عن وصفات مضمونة المفعول أكيدة النفع بشهادة توثيق دمغت بآية "وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحيٌ يوحى".
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلّم دعا في مسجد الفتح ثلاثاً، يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصّلاتين، فَعُرِفَ الْبِشْرُ في وَجْهِهِ، قال جابر: ((فلم ينزل بي أمر مهمّ غليظ إلا توخّيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة)). رواه البخاري في الأدب المفرد وأحمد والبزّار وغيرهم.
إنَّ حاجتنا للدُّعاء ليست بأقل من حاجتنا للهواء والماء فهو سلاحنا لجلب الخير ودفع الضر، كما أخبر بذلك رسول الله صلى لله عليه وسلم بقوله: ((الدعاء ينفع ممَّا نزل وممَّا لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدُّعاء)).
إنَّ هذا الحديث الذي بين أيديكم إلاَّ واحداً من تلك الوصفات الثمينة لكل محتاج وكلنا فقير ومحتاج لها، وبما أن موضوعها الدعاء فليس أحد في غنى عنه إلا من أيِسَ من رحمة الله وخالف نهج الأنبياء والصالحين وباء بغضب الله تعالى بتكبره وتخليه عن الدعاء ليبوء بوعيد الله فرسولنا صلى الله عليه وسلم بينها واضحة جلية أن الدعاء ليس أمراً ثانوياً أو تكميلياً ولكنَّه أحد أساسات الإيمان ومستلزماته، فقال: ((الدعاء هو العبادة))، ثمَّ قال: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }. (رواه الترمذي في سننه).
وقال صلّى الله عليه وسلم: ((من لم يَدْعُ الله سبحانه غضب عليه)). (رواه ابن ماجه في سننه، وأحمد في مسنده).
إنَّ حاجتنا للدُّعاء ليست بأقل من حاجتنا للهواء والماء فهو سلاحنا لجلب الخير ودفع الضر، كما أخبر بذلك رسول الله صلى لله عليه وسلم بقوله: ((الدعاء ينفع ممَّا نزل وممَّا لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدُّعاء)). (رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، والترمذي في سننه، والحديث فيه ضعف، ويرتقي إلى درجة الحسن لغيره بالاعتبارات والشواهد).
إنّنا نسمع كثيراً ونقرأ عن إرشادات الأطباء واختصاصيي التغذية بشأن الطرق المثلى لتناول الطعام كمّاً وكيفاً ووقتاً مع تفصيلات لا حصر لها بشأن تركيبه من حيث كميات الملح أو الزيت أو الدهون أو غير ذلك وتأثير النوم عقبه مباشرة أو تناول الماء قبله أو أثناءه أو بعده والوضع الأمثل لذلك.. وقس على ذلك مع كثير من الأمور الحياتية المتكررة، لتجد أن كل عمل تقوم به صغيراً كان أو كبيراً محكوم بضوابط لتأديته وعلى قدر التزامك بها تزداد فاعليته وإنتاجيته وفائدته..
وكذلك الدعاء، فبقدر الالتزام بالضوابط والآداب المحيطة به بقدر ما يؤتي أُكله وثماره وتزداد فاعليته، ولعل مما ذكرناه سابقاً ما يتعلق بتحري المطعم الحلال والرزق الحلال لإجابة الدعاء، وأشير هنا سريعاً إلى حضور القلب واستفتاحه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء على الله جلّ وعلا وعدم رفع الصوت به عالياً وتحري المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتكرير ثلاثاً في الدعاء والاستغفار وعدم تعجل الإجابة وألا يكون يدعو على نفسه ولا ولده ولا على ماله بسوء، وتحرّي أوقات الدعاء التي ترجى فيها الإجابة كتلك التي بين الأذان والإقامة وفي السجود وفي السفر والمظلمة، وعند النداء والصف وعند نزول المطر، وساعة الجمعة، وعند إفطار الصائم ووقت السحر وفي جوف الليل وليلة القدر.. ونضيف هنا دعاء الأربعاء.
إنَّه الدعاء الذي أرشدنا إليه الصَّحابي الجليل جابر بن عبد الله بطريقة مشوقة تأخذ بالألباب فوصف أدباً جمّاً للنبي صلى الله عليه وسلم مع ربه في إلحاحه بالدعاء وتكريره على عدة أيام، ثم استبشاره بإجابته.. ويا للجمال والروعة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعوة وهو أحب خلق الله إلى الله ومع ذلك فإن الله تعالى يؤخر إجابته ليسمع دعاءه ويرى تذللـه بين يديه وثناؤه عليه فيما نحن نستبطئ الإجابة متذمرين متشككين إلا من رحم الله.
أتوقّع منك أن تبادر وأن تبادري بعد الانتهاء من قراءة هذا الحديث إلى وضع دائرة أو علامة تذكير على أيام الأربعاء في التقويم الشهري وكتابة ملحوظة بارزة "موعد مع الله" تشتاق إليه لتدخل في خلوة مع ربك تبثه همومك وآلامك وتشكو إليه ما لا يخفى عليه
وجابر رضي الله عنه يسوق لنا دليلاً عملياً على أن إجابة الدعاء في ذلك التوقيت المعين يوم الأربعاء لم يكن أمراً اختص الله به نبيه ولكنه كنز ثمين جعله له ولأمته من بعده. ولن أخوض في أقوال بعض العلماء الذين ضعّفوا سند الحديث أو أولئك الذين جعلوا علة الإجابة مقرونة بتكرار الدعاء لا بخصوصية التوقيت، أو أولئك الذين عزوا ذلك إلى المكان لا الزمان فجعلوا تلك خاصية لمسجد الفتح أو للمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وأكتفي بما أورده علماء ثقات لم يجدوا غضاضة في إثباته والعمل بظاهره، فقد قال الشيخ حسين العوايشة في "شرح صحيح الأدب المفرد" (2/380-381) (فاستُجيب له بين الصلاتين مِنْ يوم الأربعاء): قال شيخنا (أي: الألباني) مجيباً سؤالي عن ذلك: لولا أَنَّ الصحابي رضي الله عنه أفادنا أَنَّ دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت من يوم الأربعاء كان مقصوداً، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب وليس الخبر كالمعاينة، لولا أَنَّ الصحابيّ أخبرنا بهذا الخبر؛ لكنّا قُلْنا هذا قد اتفق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أَّنه دعا فاستجيب له، في ذلك الوقت من ذلك اليوم. لكن أَخذ هذا الصحابي يعمل بما رآه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ووقتاً ويستجاب له. إِذاً هذا أمرٌ فهمناه بواسطة هذا الصحابي وأَنّه سنّةٌ تعبدية لا عفوية. انتهى كلامه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط" (1/433): وهذا الحديث يعمل به طائفة من أصحابنا وغيرهم فيتحرون الدعاء في هذا كما نقل عن جابر ولم يُنقل عن جابر رضي الله عنه أنه تحرى الدعاء في المكان بل في الزمان. وقال البيهقي في "شعب الإيمان" (2/46): (ويتحرّى للدّعاء الأوقات والأحوال والمواطن التي يرجى فيها الإجابة تماما فأما الأوقات فمنها ما بين الظهر والعصر من يوم الأربعاء). وإن كان البعض جعلها بين العصر والمغرب والله أعلم.
وماذا بعد، أتوقّع منك أن تبادر وأن تبادري بعد الانتهاء من قراءة هذا الحديث إلى وضع دائرة أو علامة تذكير على أيام الأربعاء في التقويم الشهري وكتابة ملحوظة بارزة "موعد مع الله" تشتاق إليه لتدخل في خلوة مع ربك تبثه همومك وآلامك وتشكو إليه ما لا يخفى عليه. إنه موعد جعلناه بين أيديكم لتكثروا فيه من الوقوف ببابه، فمن أدام طرق الباب يوشك أن يفتح له، ومن سأل الكريم أُكرم ومن استرحم الرحيم رُحم..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين.