الحكمة موهبة يتفضَّل اللهُ سبحانه بها على خلّص عباده، قال الله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. (البقرة:269). فممّا أورده المفسرون من أقوال حول معاني الحكمة في هذه الآية الكريمة، قول التابعي الكبير مجاهد بن جبر : (الإصابة في القول والفعل)، وقول التابعي الجليل إبراهيم النخعي: (معرفة معاني الأشياء وفهمها).
وعندما تكون الحكمة كذلك، فلا شك أنّها ضالة المؤمن يبحث عنها، فأينما وجدها رحل إليها، إذ هو أحق النَّاس بها.
وعندما تكون عيونُ الحكمة وروائعُ المواعظ مجموعَين بين دفتي كتاب واحد، كان التعريف به وبمؤلفه مساعداً لسبر أغوار هذا الكتاب والاستفادة منه، خصوصاً إذا عرفنا أنَّ مؤلفه لقّب بـ (واعظ الآفاق)، وله من السجع اللفظي ملكة قويّة، وكان يجتمع في مجلس وعظه عشرات الآلاف.
لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثمَّ تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى
إنّه كتاب: (صيدُ الخاطر) للإمام أبي الفرج ابن الجوزي ..
مع الكتاب:
يقول الإمام ابن الجوزي في مقدمة (صيد الخاطر): (لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثمَّ تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى).
من هنا كانت البداية في جمع هذا الكتاب، ولكنَّ الخواطر كثيرة، وذات ألوان وأشجان، فما كان من ابن الجوزي إلاَّ أن يقيّدها فكان هذا الكتاب، وفي هذا المعنى يقول: (ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنح له من عجائب الغيب، ما لم يكن في حساب، فأنثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيداً - لصيد الخاطر - والله وليّ النّفع، إنَّه قريب مجيب).
ويبدأ الإمام ابن الجوزي كتابه بأصل المسألة ولبّ المعضلة في قضية انتفاع السَّامعين للموعظة، إذ هُم بين حالتي اليقظة والغفلة، فيقول: (قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القسوة والغفلة ! فتدبرت السبب في ذلك، فعرفته.
ثمَّ رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها، لسببين.
أحدهما: أنَّ المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت وقوعها.
والثاني: أنَّ حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها، وكيف يصح أن يكون كما كان ؟!. وهذه حالة تعمّ الخلق، إلاَّ أنَّ أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر).
كتاب ((صيد الخاطر)) ضمَّ 373 فصلاً حوى درراً من الفوائد والنصائح والمواعظ، وهو مطبوع ومحقّق، حيث اعتنى به كثير من الباحثين ودور النشر، ويحوي ما يقارب 500 صحيفة على اختلاف طبعاته.
مع المؤلف :
لقّب بـ (واعظ الآفاق)، وله من السجع اللفظي ملكة قويّة، وكان يجتمع في مجلس وعظه عشرات الآلاف.
هو الإمام عبدُ الرَّحمن بن أبي الحسن بن علي ابن عبد الله القرشي التميمي الحافظ، جمال الدّين أبو الفرج البكري البغدادي المعروف: بابن الجوزي، الفقيه الحنبلي، ولد سنة 510 هـ.
كان متبحراً في العلم لا يدع فناً من فنونه إلاَّ وأخذ منه بحظ وافر، يقول : (ولم أقنع بفن من العلوم، بل كانت أسمع الفقه والوعظ والحديث واتبع الزّهَّاد، ثمَّ قرأتُ اللغة .. ).
وصفه الإمام الذهبي في (تذكرة الحفَّاظ) بقوله: (الإمام العلاَّمة الحافظ عالم العراق وواعظ الآفاق)، قال سِبْطُه: (سمعت جدّي يقول على المنبر: كتبت بإصبعي ألفي مجلد وتاب على يدي مائة ألف وأسلم على يدي عشرون ألفًا. قال: وكان يختم في كل أسبوع ختمة، ولا يخرج من بيته إلاَّ إلى الجمعة أو المجلس).
توفي ببغداد في رمضان من سنة 597 هـ، وقد قارب التسعين، وكانت جنازته مشهودة شيّعه خلق كثير.
صنَّف المؤلفات الكثيرة، التي قاربت ثلاثمئة مصنّف؛ منها: ( زاد المسير في علم التفسير، وفنون الأفنان في علوم القرآن، وأسباب النزول، والعلل المتناهية في الأحاديث الواهية، والوفا في فضائل المصطفى، وصفوة الصفوة (تراجم)، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم وتلبيس إبليس، وذمّ الهوى، وغيرها).
من عيون كلامه :
- من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه.
-عقارب المنايا تلسع، وخدران جسم الأمل يمنع الإحساس، وماء الحياة في إناء العمر يرشح بالأنفاس.
من بدائع أجوبته :
- سئل أيّما أفضل أبو بكر أو علي ؟ فقال : (أفضلهما من كانت ابنته تحته).
- سئل أيما أفضل أُسبح أم أستغفر؟ فقال: (الثوب الوسخ أحوج إلى الصَّابون من البخور).
من وعظه لولاة الأمور :
- إن تكلَّمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، فأنا أقدّم خوفي عليك على خوفي منك، أقول قول الناصح: اتق الله، خير من قول القائل: أنتم أهل بيت مغفور لكم.
- اذكر عند القدرة عدل الله فيك وعند العقوبة قدرة الله عليك، وإيَّاك أن تشفي غيظك بسقم دينك.
اذكر عند القدرة عدل الله فيك وعند العقوبة قدرة الله عليك، وإيَّاك أن تشفي غيظك بسقم دينك.
الموضوعية والتوازن عند ابن الجوزي ..
يقولُ الإمامُ ابن الجوزي: (كان قد سألني بعضُ أصحاب الحديث: هل في ((مسند أحمد)) ما ليس بصحيح ؟ فقلت: نعم . فعَظُمَ ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب، فحملت أمرهم على أنَّهم عوام، وأهملت فكر ذلك. وإذا بهم قد كتبوا فتاوى، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان، منهم أبو العلاء الهمداني يعظمون هذا القول، ويردّونه ويقبّحون قول من قاله، فبقيت دهشاً متعجباً، وقلت في نفسي: واعجباً صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضاً، وما ذاك إلاَّ أنَّهم سمعوا الحديث، ولم يبحثوا عن صحيحه وسقيمه، وظنوا أنَّ من قال ما قلته قد تعرَّض للطَّعن فيما أخرجه أحمد، وليس كذلك، فإنَّ الإمام أحمد روى المشهور والجيّد والرّديء. ثمَّ هو قد ردَّ كثيراً ممَّا روى، ولم يقل به ولم يجعله مذهباً له).
التصنيف أكثر نفعاً من التعليم ..
يقولُ الإمامُ ابن الجوزي : (رأيت من الرَّأي القويم أنَّ نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة، لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلّمين وأشافه بتصنيفي خلقاً لا يحصون ما خلقوا بعد، ودليل هذا أنَّ انتفاع الناس بتصانيف المتقدّمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم، فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفّق للتصنيف المفيد).
المراجع :
- تذكرة الحفاظ – الإمام الذهبي.
- الأعلام - خير الدّين الزركلي.
- كشف الظنون – حاجي خليفة.