قال الله عز وجل: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين، بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تَدْرُسون..} (آل عمران: 79).
الآية في سياق جدال النصارى ومناقشتهم، وإقامة الحجة عليهم، وإبطال مزاعمهم بشأن عيسى ابن مريم عليه السلام.
إن عيسى ابن مريم عليه السلام عبد الله ورسوله، خلقه الله خلقاً خاصاً، وجعله آية من آياته، لكنه ليس ابناً له سبحانه وتعالى، وإنما بشر مخلوق، ورسول كريم عليه الصلاة والسلام.
إن عيسى عليه السلام بشر من البشر، آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة، وبعثه رسولاً الى بني إسرائيل، وطلب منهم أن يؤمنوا به رسولاً، وأن يعبدوا الله وحده، ربهم وربه.. ولا يتصور ولا يُعقل أن يقول لهم: {كونوا عباداً لي من دون الله}!!
إن العالم والمفكر والمربي والمجاهد الداعية لا يدعو الناس إلى نفسه، ولا يسعى من ذلك إلى مطامع شخصية، ومنافع ذاتية، ولا يريد تجميع الناس حوله، ولكنه مخلص لله، يسعى إلى تربية الناس على منهج الله وتحويلهم إلى دعاة وجنود لدين الله
والذين زعموا أنه إله أو ابن لله كاذبون، والذين زعموا أنه قال لهم: أنا إله أو أنا ابن الله، كاذبون مفترون، وهو نفسه يكذبهم في افترائهم ويتبرأ منهم يوم القيامة، قال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلتُه فقد علمتَه، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتَني به، أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم، فلما توفّيتني كنتَ أنت الرقيبَ عليهم}(المائدة: 116 - 117).
ونشهد أن عيسى ابن مريم عليه السلام عبدالله ورسوله، وأنه مكرَّم عند الله، وأنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة كما أمره الله.
والآية ليست خاصة بعيسى والثناء عليه، عليه السلام، لكنها عامة في كل أنبياء الله ورسله، كما أنها عامة تشمل كل عالم عامل، وداعية رباني، ومربٍّ كريم. ويجب أن ننظر لها على أنها تتحدث عن العلماء الربانيين، والدعاة القرآنيين، الذين يقومون بواجب العلم والتعليم، والدعوة والتربية والمواجهة والمجاهدة في داخل فلسطين، وفي خارجها، ويتوزعون في مختلف بلدان العالم الإسلامي.
نأخذ من قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحكم والنبوة أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله} أن العالم والمفكر والمربي والمجاهد الداعية لا يدعو الناس إلى نفسه، ولا يسعى من ذلك إلى مطامع شخصية، ومنافع ذاتية، ولا يريد تجميع الناس حوله، ولكنه مخلص لله، يسعى إلى تربية الناس على منهج الله وتحويلهم إلى دعاة وجنود لدين الله!!
وهو في سعيه لتحقيق هدفه السامي يصل من استجابوا له وتعاونوا معه بالله، ويقول لهم {كونوا ربانيين}، وبذلك يكونون أولياء لله، ناصرين لدينه.
{كونوا ربانيين}:
يا أحبابنا: هنيئاً لكم هذا الطريق الجهادي العظيم، ومبارك لكم هذه الربانية العملية الجهادية، ونخاطبكم قائلين لكم: {كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تَدْرُسون}.
وقفتنا مع هذه الجملة القرآنية العظيمة، والتفاتنا إلى ما يمكن أن نأخذ ونستفيد منها.. {ربانيين}خبر {كونوا} منصوب بالياء، وهو جمع مذكر سالم مفرده، (رباني) والياء في (رباني) ياء النسبة مثل: شافعي وفلسطيني ومصري.
والرباني هو المنسوب إلى (الرب) وهو الله رب العالمين، ومعلوم أن (الله) لا يجوز النسبة إليه؛ فلاتقول (اللاهي)، أما الرب فتنسب إليه، وتقول: هذا رباني!
والنسبة إلى (الرب) نسبة تكريم وتشريف لهذا المؤمن المنتسب إليه، وهذا المؤمن الرباني يزداد بهذه النسبة العظيمة شرفاً ورفعة وسمواً وفضلاً.
متى نكون ربانيين؟ ومتى ننال شرف هذه النسبة؟ تدلّنا الآية على وسيلتين:
{بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}:
الباء مذكورة مرتين، وهي باء الملابسة والمصاحبة، كما أنها باء السببية، أي أن من أراد أن يكون ربانياً فلا بد أن يأخذ بالسببين، ويحقق الشرطين، ويصاحب الوسيلتين!
من أراد أن يكون ربانياً فلا بد أن يعلّم الكتاب، وأن يدرس هذا الكتاب.
والمراد بالكتاب هنا القرآن الكريم، فتعليمه ودراسته وسيلتان للوصول للربانية!!
واللافت للنظر أن الآية قدمت التعليم على الدراسة، وذلك لأهمية التعليم للحصول على الربانية، علماً أن الدراسة عملية ذاتية، والتعليم عملية خارجية، والدراسة تحصَّل قبل التعليم.
وتعليم القرآن موجَّه للمسلمين المُقْبلين عليه في (دور القرآن) وفي مراكز التحفيظ، من الرجال والنساء، والشباب والفتيان.
و{الكتاب} مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، والتقدير: (تعلّمون القرآن المسلمين)!
ودراسة القرآن تقوم على فهمه وتدبّره، وإحسان استنباط معانيه ودلالاته، والوقوف على لطائفه وروائعه، والاطلاع على تفاسيره.
ومفعول {تدرسون} محذوف، والتقدير تدرسون القرآن، ودراسة القرآن والوقوف على روائعه تستغرق العمر كله.
يا أحبابنا الربانيين؛ من إخواننا وأخواتنا، ومن أبنائنا وبناتنا من أهل القرآن، في دور القرآن ومراكز التحفيظ ودورات الترتيل: أنتم أشرف الناس في البلاد، وطريقكم مع القرآن أكرم الطرق.. لقد أراد الله بكم الخير عندما حبّب إليكم كتابه، واستعملكم في خدمته، وأقامكم على دراسته وتعليمه، ومواجهة أعدائه..
يا أحبابنا: هنيئاً لكم هذا الطريق الجهادي العظيم، ومبارك لكم هذه الربانية العملية الجهادية، ونخاطبكم قائلين لكم: {كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تَدْرُسون}.