الدَّولة ضرورة حضارية ” مشروع البنا نموذجا ” ( 1-2 )

الرئيسية » بصائر الفكر » الدَّولة ضرورة حضارية ” مشروع البنا نموذجا ” ( 1-2 )
alt

فتحت الثورات الشعبية التي تجتاح عالمنا العربي في الوقت الرّاهن مجالاً كبيرًا للحديث عن إعادة تشكيل بنية وشكل الدولة القومية الحديثة، بعد عقود طويلة من الفشل والفساد.

وتتواكب هذه المسألة مع الزّخم الكبير الذي بات يكتسبه المشروع الإسلامي في وقتنا الرّاهن، والدور الذي باتت تلعبه القوى الإسلامية في تشكيل مصائر أوطانها، وهو ما يعيد النقاش حول شكل مشروع الدولة الذي تقدّمه هذه القوى كبديل للحكم في بلدانها.

وفي حقيقة الأمر، فإنَّ هذه القضية ليست قضيَّة سياسيَّة؛ بل هي من أساسيات حياة الإنسان، فمنذ أن ظهر الإنسانُ على سطح هذه الأرض؛ فإنَّه سعى إلى تنظيم أموره الحياتيَّة وشأنه اليومي الذي كان همَّه الأكبر في ذلك الزّمن البعيد مجرد توفير وسائل العيش لعددٍ محدودٍ من البشر.

ومع تطوّر الجماعة البشريَّة وتعقُّدها في الشكل والحاجات من مستوى الأسرة وحتى مستوى القبيلة والعشيرة ظهرت الحاجة إلى وجود شكلٍ من أشكال "السلطة" أيًّا كانت لتسيير أمور الرعيَّة وتنظيم مصالحها وتطبيق الثواب والعقاب وفرض القواعد التي استُقِرَّ عليها واتفق عليها الجميع لتسيير شئونهم اليوميَّة وحياتهم العامة.

وكانت السلطة في ذلك الوقت من التاريخ الإنساني ذاتَ طابعٍ أخلاقي واجتماعي بالأساس (رب العائلة، كبير القبيلة وشيخها.. إلخ)، مع عدم تعقُّد شكلِ أو أنشطةِ الجماعات البشريَّة بالصورة التي تستوجب ظهور السلطة السياسيَّة بالمعنى المعاصر للمصطلح، ثم تطورت هذه السلطة وتعقدت بتعقد أنماط العمران البشري، حتى وصلنا إلى شكل الدولة المعاصرة، والتي هي أوسع شكلٍ من أشكال العمران البشري المنتظم، وأكثرها كمالاً وتنوعًا.

الدولة في مشروع الصحوة الإسلامية:

ومشروع الدَّولة قديم في فكر وأدبيات الصّحوة، مع إدراك القائمين عليه ومنظريه لأهميَّة الدولة ووجود السلطان في تنظيم حياة البشر كأحد قوانين العمران البشري كما خلقها الله سبحانه وتعالى.

ولقد تأثر مشروع الدولة الإسلاميَّة لدى تيارات الصحوة المختلفة التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومن بينها مشروع الإخوان المسلمين، بمجموعةٍ من العوامل التي جعلته يظهر على الشكل الذي جاء عليه في أدبياتها المختلفة، وهي:

1. الظروف التي كانت قائمةً في ذلك الوقت على مستوى عموم الأمة العربيَّة والإسلاميَّة، من تخلُّفٍ حضاري وعلمي واقتصادي وعسكري.. إلخ وتفتُّت.

2. وقوع أجزاء كبيرة من العالم العربي والإسلامي تحت نير الاستعمار الغربي المباشر؛ حيث كانت القوى الأوروبيَّة تسيطر على أجزاء شاسعة من البلدان العربيَّة والإسلاميَّة بقوة السلاح والسياسة وتستنزف خيراتها وثرواتها وتوجِّهها في سبيل تحقيق المصالح الغربيَّة على مختلف المستويات السياسيَّة والأمنيَّة والعسكريَّة وغير ذلك.
انهيار دولة الخلافة الإسلاميَّة في العام 1924م على يد كمال أتاتورك في تركيا؛ ممَّا مثَّل صيحةَ تحذير قويَّة للمسلمين بأنَّ آخر حصون وحدة الأمَّة- ممثلاً في الخلافة العثمانيَّة- قد تهدَّم
3. انهيار دولة الخلافة الإسلاميَّة في العام 1924م على يد كمال أتاتورك في تركيا؛ ممَّا مثَّل صيحةَ تحذير قويَّة للمسلمين بأنَّ آخر حصون وحدة الأمَّة- ممثلاً في الخلافة العثمانيَّة- قد تهدَّم؛ بما يفرض على كل مسلم مخلص أن يسعَى للبحث عن اتجاه جديد للنهضة الإسلاميَّة يتجاوز هذه الانتكاسة الكبرى، ومِن ثمَّ نشأ مشروع الدولة الإسلاميَّة لدى الإمام البنا كبديلٍ لانهيار دولة الخلافة الإسلاميَّة.

4. غياب تطبيق الشريعة الإسلاميَّة، وبالتالي غابَ المشروعُ الأممي الإسلامي في الداخل والخارج، وبات واضحًا أنَّ غيابَ الدولة القويَّة القادرة على فرض النموذج الإسلامي الأصيل يُعتبَر واحدًا من أهم أسباب هذه الحالة، مع كون فرض الشريعة وحمايَّة مقاصدها الخمسة- وعلى رأسها حمايَّة الدين- والعمل بما أنزل الله تعالى هو الهدف الرَّئيس من وراء استخلافه عزّ وجل للإنسان في الأرض.

5. حالة الفساد السياسي التي لا تزال قائمةً في الكثير من بلدان الأمَّة، والتي من بين مظاهرها قابليَّة القوى الحاكمة والسياسية الموجودة للاستقطاب من جانب المشروع الإمبريالي العالمي.

وكان هناك في بعض المشروعات التي عرضتها تيارات الصَّحوة، ومن بينها مشروع جمال الدين الأفغاني ورشيد الرضا والإمام حسن البنا، الكثر من بُعد النظر في أنهم قدروا الشكل العام للدولة في العالم العربي والإسلامي في مرحلة ما بعد خروج الاستعمار، وقدروا أيضًا متطلبات البناء والنهضة في هذه المرحلة.

ورأوا هؤلاء، من خلال أدبياتهم، أنَّ دولةً إسلاميَّة قائمةً على الشريعة وذات مواصفات محدّدة في مرجعيات الدين الإسلامي الأصليَّة وهي القرآن الكريم والسنة النبويَّة المطهرة وكذلك التراث السياسي الأصيل لدولة الخلافة الإسلاميَّة الراشدة ستكون هي الحلَّ الأكثرَ فاعليَّة لمشكلات الأمة على مستوياتها القطريَّة الصغيرة أو القوميَّة والأمميَّة الكبرى والعامة.

كما أنَّ الحلَّ الإسلامي بشقَّيْه السياسي والاجتماعي كان هو الأكثر قدرةً على علاج مشكلة الاستعمار تحديدًا مع ما يوجد في أصول الإسلام من مفاهيم تتعلق بالشهادة والجهاد؛ بحيث يتم صياغة كل متطلبات العمل الإسلامي في مشروع سياسي واحد هو الدولة الإسلاميَّة.

الدَّولة الإسلاميَّة لدى الإمام البنا:

من خلال ما كتبه الإمام الشهيد في هذا المجال بشكل مباشر، كما في رسائله الثلاثة المهمّة "نحو النور"، و"مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي" و"نظام الحكم" أو في رسالته إلى المؤتمر الدوري الخامس للإخوان المسلمين في العام 1938م بمناسبة مرور عشرة أعوام على انطلاقة دعوة الإخوان المسلمين، أو في الروافد الفكريَّة المتاحة لنا من تراث الإمام حسن البنا التي تحدثت عن قضيَّة الدولة الإسلاميَّة من جهة شكلها وضوابطها، فإننا يمكننا تحديد معالم واضحة للدولة في مشروع الإخوان المسلمين.

في البداية، حدَّد الإمام البنا اللبِنات الأولى للدولة الإسلاميَّة القويَّة، وقال: إنَّه النسق أو النظام القرآني الذي من بين أركانه، كما حدَّدها البنا في رسالته هذه:

1. العبادات المختلفة: الصَّلاة والذكر والتوبة والصيام والزكاة.. إلخ.

2. الأخلاقيات العامة: مثل العفة والتحذير من الترف والأمر بالمعروف وبذل النصيحة والنهي عن المنكر ومقاطعة مواطنه وفاعليه وحسن المعاملة وكمال التخلق بالأخلاق الفاضلة.

3. التكافل: الإنفاق في سبيل الله والصدقة؛ وصولاً إلى مستوى التضامن الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم بالرعايَّة والطاعة معًا.

4. بناء شخصيَّة المسلم: عبْر الكسب والعمل وتحريم السؤال، والتزوُّد بالعلم والمعرفة لكل مسلم ومسلمة في فنون الحياة المختلفة، كلٌّ فيما يليق به، والحرص على سلامة البدن والمحافظة على الحواسّ، وكذلك الحج والسياحة والرحلة، واكتساب المعرفة عبر النظر في ملكوت الله.

5. الجهاد وحمايَّة حدود ومصالح الدولة: كفريضة توجب القتال في سبيل الله، وتجهيز المقاتلين، ورعايَّة أهليهم ومصالحهم من بعدهم.

وبوجهٍ عامٍ، كانت هذه الحدود أو الأُطُر العامة لنظريَّة الدولة وملامحها لدى الإمام البنا والمشروع الإخواني.
لقد وضع الإمام "الدولة الإسلاميَّة" على رأسِ أجندةِ عمله السياسي والدَّعوي خلال المراحل الأولى من عمر الدعوة
ولقد وضع الإمام "الدولة الإسلاميَّة" على رأسِ أجندةِ عمله السياسي والدَّعوي خلال المراحل الأولى من عمر الدعوة؛ باعتبار أنَّ تأصيل قيم المشروع الإسلامي بمختلف مستوياتها- الاجتماعيَّة والسياسيَّة والفكريَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة.. إلخ- لا بد لها من "حاضنة" قويَّة لكي تقيم الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى، وتُحَقِّق حاكميَّة الشريعة الإسلاميَّة في الأرض.

وفي هذا الإطار عمد إلى التأكيد أولاً على شموليَّة الإسلام، وبالتالي ربطه بالعمل السياسي كجزءٍ لا يتجزَّأ أولاً من الدين الحنيف (والحنيف هو ما حاد عن السوء والتزم الطريق القويم السليم) وثانيًا من المشروع السياسي والدعوي للإخوان المسلمين، وبالتالي وضْع مشروع الدولة الإسلاميَّة على قائمة أولويات الإصلاح في رسالة ومنهج عمل الإخوان.

وفي هذا الإطار، انشغل في كثير من أدبياته بالحديث عن قضيَّة الدولة والسياسة في الإسلام، مع محاولة نزع الشوائب الموجودة في الفهم والعمل السياسيَّيْن في العصر الحديث، من تدليس وغش وتحالفات شيطانيَّة مكَّنت الأجنبي في مصر من البقاء لعقود طويلة بالتحالف مع حكمٍ ملكيٍّ فاسدٍ، مع تقديم نموذج مخالِف لما يمكن أن نسميَه بـ"العمل السياسي الأخلاقي" أو "أخلاقيات العمل السياسي" بعيدًا عن الحزبيَّة والطائفيَّة.

وبهذا النموذج الأخلاقي للسياسة سعى المرشد المؤسّس- رحمه الله- إلى تأسيس النموذج الأخلاقي والمثالي للدولة، من جهة تركيبها ووظائفها ومهامها ومهام أجهزتها وسلطاتها المختلفة، وكذلك كيفيَّة تعاملها مع مجموعة من القضايا الإشكاليَّة التي لم ينجح عبْر التاريخ في التعامل معها سوى الحكم الإسلامي، وفشلت الأنظمةُ الأخرى العلمانيَّة والدينيَّة في أوروبا وغيرها خارج ديار الإسلام في تقديم الحلول الناجحة لها.

ومن بين ذلك كيفيَّة التعامل مع الأقليات الدينيَّة والعرقيَّة في الدولة الإسلاميَّة، وقضيَّة المواطنة، وقضايا أخرى مثل صلاحيات واستقلاليَّة السلطات المختلفة داخل الدولة، واستلهم البنا في هذا الإطار العديد من النماذج التي حفل بها التاريخ الإسلامي، من تراث عصر النبوة وعصور الخلافات الراشدة الأربعة، وغيرها من النماذج التي صنعت المجدَ الإسلامي القديم، بالإضافة إلى الصبغة الحديثة التي صبغ بها البنا مشروعَه من خلال مستجدات الواقع الإسلامي ومتطلباته، بما لا يتعارض مع الأصول.

ومن ضمن عناصر قوة الدولة كما حددها الامام البنا في كتاباته، ومن بينها رسالته "بين الأمس واليوم":

- وحدة القيادة السياسيَّة.

- اتباع النظام الاجتماعي القرآني.

- اللامركزيَّة في الحكم: بيت المال والجيش وإدارة شئون الولايات.. إلخ.

- الابتعاد عن سيطرة السلطات الدينيَّة على العمل السياسي وعلى الجانب الروحي من حياة البشر.

- الابتكار الحضاري الذاتي بجانب النقل والتطوير عن الحضارات الأخرى.

- الالتزام الإيماني.

وعلى المستوى الآخر، وبجوار مؤامرات الخارج وسياسات المستعمر لضرب الوحدة الإسلاميَّة وتفكيك دولة الخلافة، وجد البنا أنَّ هناك عوامل أدَّت إلى تحلُّل الدولة الإسلاميَّة وعدَّدَها على النحو التالي:

- الخلافات السياسيَّة والعصبيَّة وتنازع "الرياسة والجاه"، بالرغم من التَّحْذِير الشديد الذي جاء به الإسلام في ذلك ودعواته إلى الرغبة عن طلب السلطة والحكم.

- الخلافات الدينيَّة والمذهبيَّة والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى "ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة"، وإهمال كتاب الله وسنة الرسول صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، والجمود والتعصب للآراء والأقوال والاهتمام بالجدل بعيدًا عن مصلحة الأمة الإسلاميَّة ككل.

- الانغماس في أمور الدنيا وترفها، بعيدًا عن ما يجب على الحاكم الاهتمام به من شئون المسلمين.

- انتقال السلطة والحكم إلى الشعوبيِّين من غير العرب، من الفرسِ والمماليكِ والأتراكِ وغيرهم "ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح"، مع زيادة وتيرة الدسائس والمؤامرات.

- إهمال العلوم والمعارف التطبيقيَّة، والاهتمام بالفلسفات النظريَّة العقيمة، بما يخالف ما أمرَ به صحيح الدين الإسلامي الحنيف والقرآن الكريم.

- الاغترار بالسلطة وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمة الإسلاميَّة مقارنة بغيرها، بحيث زادت الفجوة الحضاريَّة سياسيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا.

ويضاف إلى ذلك عوامل داخليَّة وخارجيَّة أخرى تتعلق بطغيان المادة، والصراع الاجتماعي، ونهضة الأمم الأخرى ومؤامرات أعداء الأمَّة عليها، حتى تفككت وسقطت أرجاء الأمة في أيدي الاستعمار الغربي سواء الفرنسي أو الإسباني أو البريطاني، فكانت البدايَّة في ضياع الأندلس، واستمر مسلسل الضياع والتفكك حتى القرن العشرين الميلادي المنصرم، حيث كارثة انهيار الخلافة العثمانيَّة، بالإضافة إلى نكبة ضياع فلسطين.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …