تحدثنا في المقال السابق عن ذكرى ميلاد الإمام الشهيد حسن البنا والذي توافق مع يوم الرَّابع عشر من أكتوبر عام 1906 , وكيف كانت نشأته الدينية وكيف تبنى فكراً إسلامياً وسطياً خرج بالتدين من أحضان المساجد إلى حياة الناس لتعبيدهم لله وتحرير الأوطان من الاستعمار الذي أستعبد منطقتنا العربية والإسلامية , كما تناولنا تعليم الإمام البنا وقصة زواجه , ونستعرض في هذا الجزء من المقال فكرة إنشاء جماعة الإخوان المسلمين واهتمامه بالقضية الفلسطينية , ثم قصة اغتياله .
تأسيس الجماعة ..
تبلورت فكرة الإخوان في رأس الإمام البنا، وهو طالب بدار العلوم، فقد كتب موضوعًا إنشائيًا كان عنوانه "ما هي آمالك في الحياة بعد أن تتخرج"، فقال فيه: إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أمل خاص، وأمل عام.
فالخاص: هو إسعاد أسرتي وقرابتي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً والعام: هو أن أكون مرشدًا معلمًا أقضي سحابة النهار في تعليم الأبناء، وأقضي ليلي في تعليم الآباء أهداف دينهم، ومنابع سعادتهم تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة
وفي مارس سنة 28 9 1 م، يقول البنا : زارني بالمنزل 6 من الإخوان هم : حافظ عبد الحميد، أحمد الحصري، فؤاد إبراهيم، عبد الرحمن حسب الله، إسماعيل عز، زكي المغربي، وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كنت ألقيها، وجلسوا يتحدثون إليَّ وفي صوتهم قوّة، وفي عيونهم بريق، و قالوا: “ لقد سمعنا ووعينا، وتأثرنا ولا ندري ما الطريق العملية إلى عزة الإسلام وخير المسلمين ، فقلت لهم في تأثر عميق: “ شكر الله لكم وبارك هذه النية الصالحة، ووفقنا إلى عمل صالح، يرضي الله وينفع الناس، وعلينا العمل وعلى الله النجاح فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الإسلام جندا، وفيها حياة الوطن وعزة الأمَّة !.
يقول البنا: ثمَّ تساءل أحدهم بم نسمي أنفسنا؟ وهل نكوّن جمعيةً أو نادياً، أو طريقة أو نقابة حتّى نأخذ الشكل الرسمي؟ فقلت: لا هذا، ولا ذاك،دعونا من الشكليات،ومن الرَّسميات، وليكن أول اجتماعنا وأساسه: الفكرة والمعنويات والعمليات، نحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن” الإخوان المسلمون.”. وجاءت بغتة وذهبت مثلاً وولدت أوّل تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة: حول هذه الفكرة، على هذه الصورة وبهذه التسمية.
وفي عام 1932م، انتقل الشيخ حسن البنا إلى القاهرة، وانتقلت قيادة الحركة معه إليها، وتمَّ إصدار جريدة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية، واختير الأستاذ محب الدين الخطيب (1303ـ1389هـ) (1886ـ 1969م) مديراً لها، ثمَّ صدرت النذير في (1357هـ ـ 1938م)، ثمَّ الشهاب (1367هـ ـ 1947م)... وتوالت المجلات والجرائد الإخوانية .
بعد ذلك تكونت أوّل هيئة تأسيسية للحركة عام 1941م من مئة عضو اختارهم الشيخ حسن البنا بنفسه.
فكره :
كانت لأدبيات الإمام الشهيد حسن البنا دوراً كبيراً في التجديد و تشكيل ثقافة ووعي أجيال متواترة من المسلمين
كانت لأدبيات الإمام الشهيد حسن البنا دوراً كبيراً في التجديد و تشكيل ثقافة ووعي أجيال متواترة من المسلمين ، فضلاً عن تصحيح العديد من المفاهيم المختلطة التي تجذّرت في مجتمعاتنا ، إذ هيمنت الأساطير والخرافات على نمط حياة كثير من المسلمين ، وخنعت الشعوب للاستعمار والاحتلال وأنظمة الحكم المستبدة ، فكان لأدبيات الإمام الشهيد دوراً أساسياً في توعية المسلمين بأمور دينهم وحثهم على مناهضة الاستعمار ، وإعلاء قيمة الجهاد لمواجهة الاحتلال ونصرة القضية الفلسطينية .
وكان من أبرز الأفكار التجديدية للإمام البنا الإيمان بشمولية الإسلام في الدعوة إلى الله ، وهي الأفكار التي تميَّزت بها دعوة الإخوان المسلمين عن غيرها من تياراتِ الدَّعوة الإسلامية، و استند البنا في دعوته على أنَّ الدينَ الإسلامي شاملٌ لكلِّ مناحي الحياة، فمثل ذلك انقلاباً على كلّ ما هو تقليدي وسائد في ذلك الوقت ، إذ كانت الدَّعوة الإسلامية وقتها حبيسة جدران المساجد تختزل في تعليم القرآن الكريم وبعض علوم الحديث، وهو الأمر الذي استفز الإمام الشهيد، فسعى إلى رسم خططٍ لحياة إسلامية تستند في جميع أطرها على تعاليم الإسلام، فكانت نظرته الإسلامية الشاملة أكبر دفعة في المسار الراكد للفكر الإسلامي والذي كان سائدًا حينها .
و يقول البنا في رسالة المؤتمر الخامس للإخوان: "نحن نعتقد أنَّ أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شؤون النَّاس في الدنيا والآخرة... فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف" ، وبناء على شمولية الإسلام يقرّر البنا أنَّ دعوة الإخوان المسلمين:
دعوة سلفية: لأنَّهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصَّافي من كتاب الله وسنة رسوله.
وطريقة سنية: لأنَّهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهّرة في كلِّ شيءٍ، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
وحقيقة صوفية: لأنَّهم يعلمون أنَّ أساسَ الخير طهارة النفس، ونقاء القلب، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحب في الله، والارتباط على الخير.
وهيئة سياسية: لأنَّهم يطالبون بإصلاح الحكم في الدَّاخل، وتعديل النظر في صلة الأمَّة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب على العزَّة والكرامة والحِرص على قوميته إلى أبعد حد.
وجماعة رياضية: لأنَّهم يعنون بأجسامهم، ويعلمون أنَّ المؤمن القويَّ خيرٌ من المؤمن الضَّعيف.
ورابطة علمية ثقافية: لأنَّ الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة.
وشركة اقتصادية: لأنَّ الإسلام يُعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه.
وفكرة اجتماعية: لأنَّهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمَّة منها.
القضية الفلسطينية :
اهتم الإمام الشَّهيد بالقضية الفلسطينية منذ بدايتها، وكان صحاب نظرة ثاقبة وفريدة
اهتم الإمام الشَّهيد بالقضية الفلسطينية منذ بدايتها، وكان صحاب نظرة ثاقبة وفريدة، فلم يكن يدرك الكثيرون مدى الخطر الذي يحاك للأمَّة الإسلامية بوجود اليهود في منطقتنا والسيطرة على أرض فلسطين، بل كان مستغرباً في ذلك الوقت أن ينشغل فصيل سياسي بقضية خارج حدود الأوطان ، ولعب الإمام الشهيد دوراً فاعلاً في تكريس ثقافة الدفاع عن أرض فلسطين وحماية المسجد الأقصى، وكان يؤكِّد دائماً على أنَّ اليهود لن يفهموا إلاَّ لغة واحدة، هي القوَّة والدَّم، وأدرك حقيقة التحالف الغربي الصهيوني ضد الأمَّة الإسلامية، ودعا إلى رفض قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الأمم المتحدة سنة 1947م، ووجَّه نداءً إلى المسلمين كافة -وإلى الإخوان خاصة- لأداء فريضة الجهاد على أرض فلسطين حتَّى يمكن الاحتفاظ بها عربية مسلمة.
واتخذت الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين قرارًا في 6 من مايو سنة 1948م ينصّ على إعلان الجهاد المقدس ضد اليهودية المعتدية، وأرسل البَنّا كتائب المجاهدين من الإخوان إلى فلسطين في حرب سنة 1948م، وكان ذلك من أسباب إقدام الحكومة المصرية آنذاك على حلِّ جماعة الإخوان في ديسمبر سنة 1948م؛ الأمر الذي أدَّى إلى وقوع الصّدام بين الإخوان وحكومة النقراشي.
اغتيال البنا ..
صدرت للحكومة المصرية تعليمات من قوى غربية على إثر الدَّور الكبير الذي لعبه الإخوان المسلمين في الحرب ضد العدو الصهيوني، بضرورة القضاء على جماعة الإخوان المسلمين، فأعلن النقراشي باشا (رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت) في مساء الأربعاء 8 ديسمبر 1948م قراره بحلِّ جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها، وفى اليوم التالي بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات. ولما همّ الإمام حسن البنا أن يركب سيارة وُضع فيها بعض المعتقلين اعترضه رجال الشرطة قائلين: لدينا أمر بعدم القبض على الشيخ البنا.
ثمَّ صادَرت الحكومةُ سيارته الخاصّة، واعتقلت سائقه، وسحب سلاحه المُرخص به، وفي السَّاعة الثامنة من مساء السبت 12 فبراير 1949 م كان البنا يخرج من باب جمعية الشبَّان المسلمين ويرافقه رئيس الجمعية لوداعه ودقّ جرس الهاتف داخل الجمعية، فعاد رئيسها ليجيب الهاتف، فسمع إطلاق الرّصاص، فخرج ليرى صديقه البنا وقد أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة التي ركبها القاتل، ويأخذ رقمها، وهو رقم "9979" والتي عرف فيما بعد أنّها السيارة الرَّسمية للأميرالاي محمود عبد المجيد، المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية، كما هو ثابت في مذكرة النيابة العمومية عام 1952.
لم تكن الإصابة خطرة، بل بقي البنا بعدها متماسك القوى كامل الوعي، وقد أبلغ كل من شهدوا الحادث رقم السيارة، ثمَّ نقل إلى مستشفى القصر العيني فخلع ملابسه بنفسه ، حتى لفظ البنا أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، أي بعد أربع ساعات ونصف من محاولة الاغتيال بسبب فقده للكثير من الدِّماء، بعد أن منعت الحكومة دخول الأطباء، أو معالجتهم للبنا ممَّا أدَّى إلى وفاته.