تكلَّمنا في المقال السَّابق عن الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي أدَّت إلى قيام انتفاضة الأقصى، واشتعال جذوتها، وكيف كانت نتيجة لتلك الزّيارة الاستفزازية التي قام بها المجرم أرئيل شارون، ممَّا ولَّد لدى المجتمع الفلسطيني حراكاً شعبياً واسعاً، نصرةً للقدس ورفضاً لما قام به المجرم السّفَّاح، وهو ما قابلة جيش الاحتلال بأقسى أنواع العنف واستخدم أنواع الأسلحة كافة، ممَّا جعل الانتفاضة تزداد اشتعالاً وتوهجاً، لتنتقل بعدها إلى مراحل متعدّدة، وهو ما ميّز هذه الانتفاضة عن غيرها.
مراحل الانتفاضة ..
لم تنطلق الانتفاضة من بدايتها على الهيئة نفسها التي وصلت إليها في النهاية، بل مرَّت بمراحل نمو وتطوّر، حتى أصبحت قادرة على إلحاق الخسائر في الكيان الغاصب، والرّد على الجرائم التي يقوم بها جنوده ومستوطنوه، وتتمثل هذه المراحل بما يلي:
1- المرحلة السّلميّة:
اتسمت هذه المرحلة بالمسيرات والمظاهرات السّلميّة، والتي كانت تخرج من كافة المدن في الضفة وغزة وال48، استنكاراً لما تقوم به قوات الاحتلال؛ من قتل وانتهاك لحرمة لمقدسات، مع المطالبة بالحرية وتحرير الأسرى، حيث شاركت جميع التيارات والفصائل الفلسطينية في هذه الفعاليات، وشارك فيها الكثير من الناس، لتنتهي هذه المسيرات إلى مجابهة الاحتلال على الحواجز؛ حيث قام الشباب برشق قوات الاحتلال بالحجارة، والزجاجات الحارقة، ممَّا أدى إلى سقوط العديد من الشهداء والجرحى، نتيجة استخدام الاحتلال للرَّصاص الحيّ، وأنواع أخرى محرمة دولية، ضد المتظاهرين العزل.
أكدت انتفاضة الأقصى على أنَّ فلسطينيي الداخل لا يمكن أن تنفصل همومهم عن فلسطينيي الضفة الغربية وغزة، فرغم كل ما قام به الاحتلال من فصل بينهم، إلاَّ أنَّهم أثبتوا أنهم ما زالوا على قضيتهم ثابتين مناصرين
والمدهش في هذه المرحلة انتشار هذه المظاهرات إلى مناطق الجليل والمثلث، في الداخل الفلسطيني، ومواجهة الشباب الفلسطيني لقوات الاحتلال وحرقهم للأعلام الإسرائيلية وإغلاق الطرق الرئيسة، في سابقة تاريخية تحمل مؤشرات قوية، أنَّ فلسطينيي الداخل لا يمكن أن تنفصل همومهم عن فلسطينيي الضفة الغربية وغزة، فرغم كل ما قام به الاحتلال من فصل بينهم، إلاَّ أنَّهم أثبتوا أنهم ما زالوا على قضيتهم ثابتين مناصرين، وهو ما أوقع الاحتلال في حيرة واضطراب، مما جعله يستخدم العنف القاسي ضدهم، ويوقع بينهم شهداء وجرحى، وهو أمر أعاد النظر في علاقة فلسطينيي الداخل بسلطات الاحتلال، نظراً للتعامل الوحشي مع مظاهراتهم السلمية، والتي لا تتنافي مع أبسط الحقوق والمواثيق الدولية.
2-الاشتباك العسكري:
حيث تمثلت باصطياد جنود الاحتلال على الحواجز، والاشتباك مع قوات الاحتلال أثناء دخولها للمدن الفلسطينية، وقد قام بعض أفراد الشرطة الفلسطينية بالمشاركة في هذا الأمر، إضافة لرجال الفصائل الأخرى، وقد تجلّت هذه الظاهرة في المخيمات الفلسطينية، وعلى رأسها مخيم جنين، حيث أوقعوا العشرات من القتلى في صفوف الاحتلال الصهيوني، وكانت قد تركزت في داخل مناطق 1967 حيث نشرت الرعب داخل جنود الاحتلال، ممَّا أدَّى ببعضهم لرفض الخدمة العسكرية داخل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.
3- العمل الاستشهادي:
وتمثلت بالقنابل البشرية الفلسطينية، والتي أوقعت الكثير من القتلى، حيث تعدُّ من أكثر الأساليب الفلسطينية نجاحاً وتأثيراً، وشاركت فيها الفصائل الفلسطينية المختلفة، وكان لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) نصيب الأسد منها؛ حيث كان غالبية الاستشهاديين ينتمون لها، واستهدفت جميع التجمعات الصهيونية التي استطاعت المقاومة الوصول إليها، موقعة الآلاف من اليهود بين قتيل وجريح، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية الفادحة التي ضربت الكيان الصهيوني، والرّعب الداخلي في المجتمع الصهيوني، والذي ولّد هجرة معاكسة للخارج، لأوّل مرَّة في تاريخ الكيان المحتل.
لقد ضربت العمليات الاستشهادية النظرية الأمنية للاحتلال، والتي طالما تغنى بها وروّج لها، خصوصاً أنَّها استهدفت عمق المدن المحتلة والتي يعدّها الكيان المحتل مناطق آمنة،
وقد ضربت هذه العمليات، النظرية الأمنية للاحتلال، والتي طالما تغنى بها وروّج لها، خصوصاً أنَّها استهدفت عمق المدن المحتلة والتي يعدّها الكيان المحتل مناطق آمنة، وتتميّز هذه العمليات بأنها أقل تكلفة، وأكثر ردعاً لجرائم الاحتلال، ممَّا جعلها الأكثر شعبية عند الشعب الفلسطيني، لكونها تلقي الرّعب في قلوب اليهود وكيانهم.
4- التفخيخ وإطلاق الصواريخ:
حيث حقّقت تطوّراً ملحوظاً في أساليب المقاومة في مواجهة الاحتلال، عبر التفجير عن بعد، وإطلاق الصّواريخ قصيرة المدى في البداية، ومن ثمَّ تطوير هذه الصواريخ لتصيب أهدافاً أبعد وأكثر عمقاً، حيث وصلت صواريخ القسَّام – على سبيل المثال- إلى عمق مدينة عسقلان، حيث تمَّ تطوير مدى هذه الصواريخ لتصل لأكثر من 20 كم، وقد تركزت هذه الظاهرة في قطاع غزة، حيث أرعبت سكان المدن المحتلة التي بجانبها وألحقت الشلل التام بجميع مظاهر الحياة فيها.
ممَّا سبق يظهر أنَّ الانتفاضة الثانية، أو ما عُرف بانتفاضة الأقصى، لم تكن مقتصرة على أسلوب واحد، بل تعدَّدت أساليب مقاومة الاحتلال، وأدخلت عناصر جديدة عليها، كالصّواريخ التي تستهدف المدن، والتي ألقت الرُّعب في قلوب اليهود لقاطنين في المدن المحتلة.
كما أنَّ هذه الأساليب، لم تكن على مراحل منفصلة، بل تداخلت فيما بينهما في كثير من الأحيان، وهو ما شتت ردّة فعل المحتل، وجعل ردود أفعاله متخبطة هوجاء، لكونه لا يستطيع منع هذه الهجمات، والحيلولة دون وقوعها.
ردود الفعل ..
وبناءً على ما سبق، نجد أنَّ الاحتلال قد قام بالكثير من الوسائل لقمع الانتفاضة، وإسكات الشعب الفلسطيني، وثنيه عن مقاومته المشروعة ضده، وقد تمثلت هذه الأساليب بأمور عديدة، أبرزها ما يأتي:
1-اقتحام المدن الفلسطينية، وقصفها بالصواريخ والطائرات والدبابات، حيث قامت بتدمير العديد من المؤسسات والبيوت، في عشوائية وعبثية واضحة، تدلل على مدى حالة الخوف والفزع التي وصل إليها الاحتلال، وتبعه حصار وإغلاق عام للمدن الفلسطينية، فقد أقام الاحتلال أكثر من 170 حاجزاً ثابتاً بين المدن الفلسطينية، ناهيك عن المئات من الحواجز غير الثابتة، بحيث أصبحت كل قرية من القرى معزولة عن القرى والمدن الأخرى، وصارت حركة التنقل بين المدن صعبة جداً، ناهيك عن فرض حالة منع التجول عليها، وهدم بيوت من شاركوا في المقاومة أو قاموا بعمليات استشهادية ضد اليهود.
2-استخدام أسلوب الاغتيالات والتصفيات الجسدية للمقاومين والناشطين؛ فاغتالت القوات الصهيونية المئات من القادة والناشطين سياسياً وعسكرياً، كان على أبرزهم شيخ الانتفاضة الشيخ أحمد ياسين، مستخدمة طائرات الأباتشي، أو طائرات الأف 16، والعمليات العسكرية، وكذلك استخدمت العملاء المجندين لديها في اغتيال القادة والمجاهدين، عبر إرشاد قوات الاحتلال إلى مكانهم، أو المشاركة فيها عبر التفجير عن بعد.
3-الاعتقالات العشوائية للفلسطينيين، حيث قامت باعتقال عشرات الألوف من الفلسطينيين، ووزعتهم على مراكز التحقيق والاعتقال المختلفة، وكانت قوات الاحتلال، تفرج عن بعضهم وتبقي البعض الآخر، وقد بلغ عدد الأسرى الموقوفين لديها عام 2006، ما يزيد عن عشرة آلاف أسير، ناهيك عن الأحكام العالية التي تعرَّض لها الأسرى في محاكماتهم، لسبب أو دون سبب. مع وجود أساليب وحشية لتعذيب المساجين، في انتهاك صارخ وواضح لحقوق الأسرى التي نصَّت عليها المواثيق الدولية.