مَرَضُ تَسَوُّل المناصِب – بقلم: د. خالد الخالدي

الرئيسية » حصاد الفكر » مَرَضُ تَسَوُّل المناصِب – بقلم: د. خالد الخالدي
alt

ينتشر في أوساط بعض المثقفين وأصحاب الشهادات العليا مرضٌ خطيرٌ مُعْدٍ وفتاك، هو مرض تسوُّل المناصب، وتبدأ أعراض هذا المرض بأن يظلَّ المريض دائم التفكير في كيفية الوصول إلى المنصب الأكبر، ويسيطر عليه شعور مستمر بالظلم، مهما علا منصبه، وتتملكه دوماً رغبة عارمة بالحصول على منصب أعلى.

ويلاحَظ أن المريض يكثر من الشكوى والتذمر والغيبة والاتهام والتجريح لمن هم أعلى منه منصباً، ولا يَمَلُّ من الحديث عن ذاته وصفاته ومميزاته وفضائله ومناقبه وتاريخه، وتجده يكرر ما يقوله مراتٍ ومرات، ويتلذذ بقصصه ورواياته عن نفسه، دون أن يشعر أنه يكرر حديثه، أو يُمِلّ السامعين.

ثم يصبح دائم الغضب والنقد لأصحاب السلطة الذين لم يكتشفوا مواهبه، ولم ينزلوه منزلته، فيهاجمهم في مجالسه الخاصة، لكنه يمدحهم ويتقرب إليهم وينافقهم كلما لقيهم أو لقي المقربين منهم، وقد يمدحهم بخطب بليغة، وكلمات رنانة، وقصائد طويلة، لعلهم يشفقون عليه بالمنصب الذي يحلم به، وهو في سبيل المنصب يتبلد، ويرضى بإهانة نفسه أمام الناس، ولا يهتم بازدراء الآخرين له، وسخريتهم منه، وتصنيفهم له بأنه من شعراء البلاط المتملقين المداحين، ثم في سبيل المنصب يصير مستعداً للكذب والكيد والتآمر والتزوير وحلف الأيمان الكاذبة، ثم يبدأ في تسويق نفسه، وإرسال من يطالبون له بالمنصب المنشود.
مخاطر هذا المرض تكمن في أنه يصيب الفئة المثقفة المتعلمة في المجتمع، فيشلّها، ويُقعدها ويُعطِّل دورها الدعوي والتربوي والتعبوي والعلمي والتعليمي والجهادي
ثمَّ يتطوَّر المرض، فيدلق المريض ماء وجهه، ويفقد الحياء، ويطلب المنصب بنفسه، ويرجو ويتوسل ويلح ويحرد، ولا يمنع المريض عن هذه الممارسات المهينة سِنٌّ أو علمٌ أو شهادةٌ رفيعة أو مكانة اجتماعية، ولا تثنيه سخريات وإهانات من يتوسل إليهم، وتجده يطير فرحاً إذا حصل على ما يريد، ويحزن ويكتئب ويمرض وربما يُنقل إلى المستشفى إن وُزِّعت المناصب دون أن ينال منها شيئاً.

ومخاطر هذا المرض تكمن في أنه يصيب الفئة المثقفة المتعلمة في المجتمع، فيشلّها، ويُقعدها ويُعطِّل دورها الدعوي والتربوي والتعبوي والعلمي والتعليمي والجهادي؛ لأن القيام بهذه المهمات العظيمة يتطلب ذهناً صافياً، ونفساً راضية، وهمة عالية، وقدوة صالحة، ولهجة صادقة، وحماساً شديداً، وجرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي صفات قتلها مرض تسول المناصب، ولم تعد متوفرة لدى كثير من المثقفين المتعلمين المصابين، ومن مخاطره أيضاً أنه يوصل كثيراً من المرضى وغير الأكفاء إلى مناصب مهمة، فيضرون الدولة أو المؤسسة، ويفشلونها، ولا يخدمون إلا مصالحهم الشخصية، إذ من المستحيل أن ينجحوا مَنْ ضحوا بكرامتهم وأخلاقهم ودينهم من أجل منصب دنيوي رخيص.

ومن المؤكد أنهم لن يُسَخِّروا تلك المناصب إلا في تحقيق مصالحهم، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى قد تعهد بالتخلي عن إعانة من وصل إلى المنصب من خلال التسول، فقال:" لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إن أُوتِيتَهَا عن مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا من غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عليها"، ومن مخاطره أيضاً أنه مرضٌ مُعدٍ، لأنه يبدأ بالكبار الذين يُفترض أن يُقتدى بهم، ثم ينتقل إلى من هم دونهم سناً وعلماً وشهادة، ويظل المرض -إذا لم يُعالج بسرعة- يسري في المجتمع إلى أن يحوله إلى مجتمع متصارع لاهثٍ وراء الدنيا وشهواتها الرخيصة، ولا يُرجى منه بعد ذلك خير أو نصر.

وللقضاء على هذا المرض، وتخليص المجتمع من شره، لابد لأولي الأمر أن يتخذوا قراراً صارماً حازماً بألا يعطوا منصباً لمن سأله أو حرص عليه، متبعين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - القائل:" إنّا والله لا نولي هذا العمل أحداً يسأله أو أحداً حرص عليه"، والقائل:" إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة"، عاملين برأي أهل العلم، الذين أفتوا بعدم جواز تولية من سأل الإمارة أو حرص عليها، ونصحوا بذلك، فقال سفيان الثوري: "إذا رأيت الرجل حريصاً على الإمامة فأخره".

وليقتدي الجميع بالصحابة الكرام ومَنْ تبعهم من الصالحين، فقد قال أبو بكر في أول خطبة له بعد توليه الخلافة:" والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغباً، ولا سألتها الله - عز وجل - في سرِّ أو علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، ولكن قُلِّدْتُ أمراً عظيماً مالي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله - عز وجل، ولوددت أنَّ أقوى الناس عليها مكاني اليوم"، ويقول:" فإني وليتُ هذا الأمر وأنا له كاره، والله لوددتُ أن بعضكم كفانيه"، وروي أنه قال لعمر قبل أن يُسْتَخلف:" ابسط يدك نبايع لك"، فقال له عمر: "أنت أفضل مني"، فقال له أبو بكر: "أنت أقوى مني"، فقال له عمر: "فإن قوتي لك مع فضلك"، فبايعه، وروي أن عمر بن الخطاب عزل عمير بن سعد عن حمص، وضمها إلى معاوية...
وللقضاء على هذا المرض، وتخليص المجتمع من شره، لابد لأولي الأمر أن يتخذوا قراراً صارماً حازماً بألا يعطوا منصباً لمن سأله أو حرص عليه
وعندما وصل عمير إلى المدينة ماشياً يحمل متاعه في كيس صغير على ظهره، سأله عمر: "لماذا جئتَ ماشياً؟"، فقال: "ما عندي دابة، وما أعطوني، وما سألتهم"، فاعتذر إليه، وأكد له أنه ما عزله لسوء رآه عليه، أو سمعه عنه، فردّ عمير رداً يصلح دواءً للمصابين بداء تسول المناصب، إذ قال:" والله يا أمير المؤمنين ما سرَّني توليتك، ولا أحزنني عزلك"، وعرض عليه عمر ولاية جديدة يتولاها فرفض. لقد وعي هؤلاء الكبار الكرام نصح النبي - صلى الله عليه - وسلم لأبي ذر:" إِنَّهَا أَمَانَةٌ وَخِزْيٌ وَنَدَامَةٌ يوم الْقِيَامَةِ إِلاَّ من أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الذي عليه فيها"، فأدركوا أن المناصب أمانة ثقيلة، وحساب عسير، فخافوا منها، وزهدوا فيها، وعندما أُكرهوا عليها أحسنوا وأبدعوا ونجحوا، فأحبهم الناس، وسعدت بهم الأمة.

المصدر: موقع  صحيفة (فلسطين أون لاين) - غزة

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …