أجمع علماء ودعاة على أن قضية "عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب"، هي من أهم عوامل تخلف الأمة الإسلامية، معربين أنَّ أملهم أن تحمل التغيرات التي قد تنجم عمّا يسمّى بـ "ثورات الرّبيع العربي"، أملاً جديداً تنتفي فيه هذه الآفة، وأن يتم القضاء عليها.
وحثوا الحركات الإسلامية -التي لا يستبعد أن تصل إلى سدة الحكم في عدّة دول عربية- إلى البدء بتطبيق مبدأ "الرّجل المناسب" على ذواتها أولاً، والحرص على تطبيقه في عالم السياسة والإدارة، تحقيقاً للعدالة، وتلبية لطموحات الإنسان العربي.
احذروا الفتن
رئيس دائرة الإفتاء في رابطة علماء فلسطين الدكتور "يونس الأسطل" أكَّد أنَّه من الواجب إسناد الوظائف والأعمال لمن هو أكثر خبرة بها، وهو الموصوف في القرآن الكريم بالقوي الأمين مستشهداً بقوله تعالى: "إن خير من استأجرت القوي الأمين"، وقوله تعالى " أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامكم وإنّي عليه لقوىٍ أمين"، وقول سيّدنا يوسف عليه لعزيز مصر: " واجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".
وشدَّد على أنَّه من الواجب على الحكومات والمسؤولين أن يسندوا الوظائف لأهلها، وإن لم يوجد الكفء المطلق فيجب أن يسند الأمثل فالأمثل، وإلاَّ كان المسؤولون آثمين حينما يضعون الرّجل في المكان غير المناسب لأهليته، لأنَّ جهله بالتكاليف وضعف خبرته ستنعكس سلباً وفساداً في الواجبات المكلّف بها.
عدَّ الدكتور الأسطل اختلاف الكفاءات أمراً فطرياً، حيث تمَّ ذكره في القرآن الكريم والسنن النبوية؛ فقد فضّل الله عزّ وجل بعض النبيين على بعض كما فضَّل النبيين على غيرهم عن سائر الناس، وقد وجدنا في الصّحابة الكرام من تفوّق في علمٍ على غيره من إخوانه، فقد كان أقرأهم للقرآن "أبيّ بن كعب"، وأكثرهم علماً بالقضاء "علي بن أبي طالب"، وأعلم خبرة بالمواريث "زيد بن ثابت"، وأعلمهم بالحرام والحلال "معاذ بن جبل"، وأقدرهم على الحفظ "أبو هريرة".
واستدرك: " وقال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام في شأن أبي ذر: "ما أقلت الغبراء ولا أظلت السّماء أصدق لهجة من أبي ذر"، و لكنَّه عليه الصّلاة والسَّلام نهى أن يتآمر على اثنين أو يتولى مال يتيم لضعف أهليته الإدارية وكفاءته في ذلك".
الواجب على الحكومات والمسؤولين أن يسندوا الوظائف لأهلها، وإن لم يوجد الكفء المطلق فيجب أن يسند الأمثل فالأمثل، وإلاَّ كان المسؤولون آثمين حينما يضعون الرّجل في المكان غير المناسب لأهليته، لأنَّ جهله بالتكاليف وضعف خبرته ستنعكس سلباً وفساداً في الواجبات المكلّف بها.
الشفافية هي الحل
وتأكيداً لقول الدكتور الأسطل، يشير الدّاعية والمحاضر في كلية الدعوة الإسلامية في قطاع غزة الدكتور بسام العف إلى حثّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام في العديد من الأحاديث النبوية على ضرورة وضع الرّجل المناسب في المكان المناسب لدرء الكثير من المفاسد على الأمّة والمجتمع الإسلامي مستشهداً بقول عليه الصَّلاة والسَّلام: " إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة "، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله ؟ قال: " إذا أسند الأمر إلى غير أهله"
وتابع قائلاً: " إذا كان الشخص غير مناسب وغير كفء وتولّى شأن العباد وزمام أمورهم، فهو لن يقوم بالوظائف والمهام المنوطة به، وممكن أن يرسب بها، وممّا يترتب على ذلك أضرار كبيرة ومفاسد قد تصيب المجتمع وتخلل من بنيانه فقد قال الشاعر:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها.. فكيف إذا الرعاة لها هم الذئاب
واعتبر أيَّ مسؤول يولي غير الكفء ويضعه في مكان لا يلائم تخصصه ومهاراته العلمية وخبراته آثماً ويرتكب جرماً كبيراً في حق نفسه ومجتمعه والأمّة كلّها، مضيفاً: " وأيّ شخص يُوضع في وظيفة أو منصب ما وُضع فيه إلاَّ ليخدم شعبه ووطنه وكما له من حقوق فعليه الكثير من الواجبات يجب أن يؤدّيها على أكمل وجه".
وحول مفهوم القوّة والأمانة في الإسلام، قال الدكتور الأسطل: " إنَّ مفهوم القوّة هي العلم والخبرة والكفاءة في الوظيفة المكلف بالشخص.. أمَّا الأمانة فهي التقوى والورع ومخافة الله، أي محاسبة النفس على القيام بواجبها، وأي تقصير فيه يشعر أنَّه متحرجٌ من رقابة الله وعينه ويتخوّف منه أكثر من متابعة المدراء والمسؤولين".
لم يختلف د.العف مع د.الأسطل في تعريف الرّجل القوي الأمين مشدداً على أنَّ القوّة والأمانة يجب أن يتحلّى بها كلّ شخص تسند إليه وظيفةً ما، ولا بد أن يكون خبيراً في مجال عمله ولديه الكفاءة الكاملة للقيام بالواجبات المكلف بها.
واستشهد بقول سيّدنا يوسف حين طلب من عزيز مصر أن يجعله يتولى خزائن الأرض أي جعله وزيراً للمالية، مستدركاً: "فسيّدنا يوسف لم يطلب ذلك إلاَّ لأنَّه يعرف أنَّه كفء وصاحب خبرة وقدرة على القيام بهذه الوظيفة أفضل من غيره".
مفهوم القوّة هي العلم والخبرة والكفاءة في الوظيفة المكلف بالشخص.. أمَّا الأمانة فهي التقوى والورع ومخافة الله، أي محاسبة النفس على القيام بواجبها، وأي تقصير فيه يشعر أنَّه متحرجٌ من رقابة الله وعينه ويتخوّف منه أكثر من متابعة المدراء والمسؤولين
آثـم.. آثـم
ورأى د.العف أنَّ الاختبارات التي تُجرى لأي شخص سوف يلتحق بوظيفة ما يجب ألا تقتصر على الإجراءات الروتينية المتبعة حالياً، ولكن لابد أن يشملها مقابلات شخصية واختبارات لفحص مدى قدرته وإمكانياته لإتمام عمله بشكل دقيق وسليم، وأيضاً لمعرفة الجانب الذي يمكنه أن يتفوّق به ويبدع به لإلحاقه به.
وطالب المسؤولين بضرورة إلحاق الموظفين في دورات خاصة حتى يتم تطوير قدرته ولمنحه فرصه أكبر للبقاء في عمله، وخاصة إذا كان تخصصه نادراً وحتى لا يُهضم حقه ويشعر بالظلم.
وإن كانت هذه القاعدة واجبة وضرورية لدى الحركات الأخرى فإنَّها حتمية ولازمة لدى الحركات الإسلامية بحسب تأكيد د. الأسطل، والذي تابع بالقول: " آثـم..آثـم من يخالف هذه القاعدة التي نصَّ عليها الإسلام والله سيلحق به عذاب في الدنيا والآخرة لما لذلك مفاسد كثيرة ومخاطر ستلحق بالمجتمع ستلتهم أخضر الأرض ويابسها".
واجب الحركات الاسلامية
وأكَّد د.الأسطل على أنَّ الحركات الإسلامية هي اليوم الوجه البارز للإسلام وغياب الخلافة والحكومات الإسلامية من الواجب عليها حتى تتحقق نجاحاً مأمولاً في رسالتها وفي خدمة المجتمع أن تقدّم الكفاءات الأمنية للمواقع القيادية سواء كان هذا في العمل التنظيمي أو في الوظائف الخدمية للناس.
ويجب على الحركات الإسلامية طالما وصلت إلى سدة الحكم أن تعامل الناس سواسية بغض النظر عن رؤيتهم الحزبية والتنظيمية -حسب د.العف-، مضيفاً: " الإسلام يعامل الناس معاملة واحدة ولم يفرق بين عربي وأعجمي إلاَّ بالتقوى والعمل الصالح.. وهذا ما يجب أن تتبعه جميع الحركات عندما تتبوأ المناصب العليا في البلاد ويضعوا حكم الله بين أعينهم".
ستضيع الحقوق
واستشهد العف بحادثة أسامة بن زيد عندما توسط عند الرّسول عليه الصّلاة والسّلام للمرأة المخزومية التي سرقت، فلمَّا كلّمه أسامة تلوَّن وجه الرسول، وغضب غضبًا شديدًا، وقال لأسامة: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!... والله لو فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها".
وشدّد على أنَّ القوانين السماوية والوضعية يجب أن تُطبق على الجميع ولا تفرق بين ابن المسؤول وغيره، فالشهادة الجامعية والخبرة والحنكة هي المقياس لكل من يصل للوظيفة، متسائلاً: " فإذا كانت الحركات الإسلامية التي تصل إلى سدّة الحكم لا تتبع هذه الأصول فما الفرق بينها وبين سابقيها؟؟!!، وستصبح مثل غيرها وستضيع الأمانة وستغرق في بحر من الفساد وتساهم في انحلال قيم المجتمع".
ليس مقبولاً
القوانين السماوية والوضعية يجب أن تُطبق على الجميع ولا تفرق بين ابن المسؤول وغيره، فالشهادة الجامعية والخبرة والحنكة هي المقياس لكل من يصل للوظيفة
حول أسباب وقوع الحركات الإسلامية خطأ "عدم اختيار الرجل المناسب"، قال د. الأسطل: " إنَّ ضعف الوازع الديني عند شريحة من القيادات في الحركات الإسلامية، وتغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة حينما يكون إسناد الوظائف لقرابة أو صداقة أو منفعة، والجهل لمستوي الكفاءات الموجودة داخل المؤسسة، لأنَّ بعض المؤهلين قد يكون مغموراً لقلة احتكاكه بالقواعد فيتم اختيار الأضعف مع وجود الأقوى".
وأشار إلى أنَّه قد يكون السبب الرئيس هو تغليب الولاء التنظيمي علي المصالح العامة للمجتمع، بحيث يسعى التنظيم لتوفير الوظائف لأبنائه دون غيرهم من سائر الناس.
واستدرك: " إن كان هذا مقبولاً في الوظائف ذات الطابع السرّي الخاص، فليس مقبولاً في الوظائف الخدماتية العامة".
واتفق د. العف مع د. الأسطل في تشخيص الأسباب مشيراً إلى أنَّ المفاسد التي ستنتج عن ذلك أنه سيعم الظلم في المجتمع وستضيع حقوق المواطنين بين أقدام المسئولين وسيختلط الحابل وبالنابل، وسيضيع الكثير من الوقت والجهد، ولن يكون هناك ثمرة من الوظائف تعود بالفائدة على المجتمع.
واعتبر د. الأسطل أنَّ إسناد المسؤوليات لغير أهلها ولأنصاف الكفاءات مع وجود المؤهلين سيعود بنقمة كبيرة على المجتمع بسبب التأخير والخلل الذي وقع في تقديم الخدمات للناس، والأمر الذي سيؤدّي إلى تفكك المجتمع وضعف أواصر المحبة بينه.
وأوضح أنَّ أصحاب الخبرات والأكفاء الذين قُدم عليهم من دونهم في الأهلية سيشعرون بالإحباط واليأس وكراهية تلك الحركات والمسؤولين، ويزهدون عن اكتساب الخبرات في المستقبل حتى لا ينفق مالاً وجهداً ثمَّ يجد نفسه على قارعة الطريق دون عمل.
قلة الخبرة
وليس عيباً أن تقع الحركات الإسلامية في الخطأ بسبب قلة الخبرة، إنَّما العيب والإثم هو أن تعرف الخطأ ولا تسعى لمعالجته، فالخطأ هو الإصرار عليه أو تجاهله مع القدرة على معالجته، هذا ما أكَّده د. الأسطل.
ومضى يقول: " فمن هنا يجب أن تكون هناك رقابة حرّة ونزيهة وكفء لتراقب أداء الحركات عندما تصبح في الحكومات، ويجب أن يكون هناك تقييم مستمر لمدى تحقيق الأهداف الموجودة من خلال الأداء اليومي ليجري استدراك الخلل أو الخطأ أولا بأول".
وبيّن أنّه لو اتبعت هذه الحركات هذه اللوائح ستتحاشى أن تلدغ من الحجر مرتين، وأن تتعرَّض لحساب الله سبحانه وتعالى وسننه، فإذا تمَّ السّكوت عن الخطأ والتمادي فيه سيتراكم الإثم شيئاً فشيئاً، وستصبح مخالفة كبيرة تستوجب العقوبات الإلهية في الدنيا وحق سننه في عبادة.
ونوّه إلى أنَّ المسلمين خسروا في معركة أحد لخلل وقع فيهم، كما هزموا في الجولة الأولى من معركة حنين لأسباب أخرى، وأنَّ أول أية نزلت تعقيباً على انتصار بدر العظيم عالجت خلل وقع فيها يتعلق بالغنائم، لهذا أنزلها الله من بين أيديهم فقال: " قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم "، فالقوة لا تأتي إلا بتآلف القلوب.
وشدَّد على أنَّه عند تقييم أداء الحكومات والحركات يجب علينا أن نضع الإيجابيات والإنجازات في كفة، والسلبيات والإخفاقات في الكف الأخر عملاً بقوله تعالى: "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا بالميزان"، وإن غلبت الحسنات السيئات كان الثناء والاستحسان والأجر مع عدم إغفال الكفة الأخرى، وإذا غلبت السيّئات على الحسنات وجبت المراجعة الفورية وإعادة الخطط والبرامج لاستدراك ما فات، وهو شرط من شروط التوبة لله مع الاعتذار للمجتمع.