إنَّه ليس من أهلك ..

الرئيسية » بصائر التوحيد » إنَّه ليس من أهلك ..
alt

عندما تتعارض وشائج العلاقة الأسرية مع رباط العقيدة والتوحيد.. وعندما تخالف عقائد الناس فطرة الله سبحانه التي فطرهم عليها .. عندها يوضع الرّجال على المحك الذي فيه يتمايزون؛ فمنهم من يثبت، ومنهم من يتساقط، منهم من يختار الانجراف خلف التيّار، فيختار العصبية والقبلية، ومنهم من يتمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، ويترك دعوة الجاهلية في الانتصار لراية فلان أو راية علاّن.

إنَّ عقيدة التوحيد الخالص التي جاء بها الأنبياء والمرسلون لا تقبل أن يكون الولاء إلاَّ للّه سبحانه وتعالى، ولا البراء إلاَّ من المشركين،  قال الله تعالى:{ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. (المجادلة:22).
إنَّ هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكاً؛ فإمّا تجرّد لها، وإمَّا انسلاخ منها
(.. فروابط الدَّم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان : إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين؛ لواء الله ولواء الشيطان.
والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان . فأمَّا إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة، فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد).

وقال عزّ وجل:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. (التوبة: 23).

(إنَّ هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكاً؛ فإمّا تجرّد لها، وإمَّا انسلاخ منها، وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزَّوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة؛ ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة . . كلا، إنَّما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحرّكة والدَّافعة).

وليتم التميّز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والرّوابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان، قال سبحانه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}. (الممتحنة: 1).
تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحرّكة والدَّافعة
ابن نوح عليه السَّلام ..

نوح عليه السَّلام .. فلذة كبده يتنكَّب عن الصِّراط المستقيم ويختار عبادة الأوثان، فيتألم نبيُّ الله نوح، وتختلج في نفسه علاقة الأبوة، فيسأل ربّه:{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}. (هود: 45)، فيأتيه الجواب من لدن حكيم خبير، ليضع هذه العلاقة في محلّها الصَّحيح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح}. (هود 46).

فبيَّن له أنَّ وعده بنجاة أهله لا ينالُ ابنَه، لأنَّه خرج عن الصّراط السويّ، واختار طريقاً  يتعارض مع سبيل التوحيد الذي جاء به أبوه عليه السّلام .. هنا يتذكّر نوح أنَّه لا تنازل عن المبادئ الرّبانية لصالح محبّة الأشخاص وإن كانوا مقرّبين، فقال العبد الصّالح: {ربّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} (هود:47)، فاعترف عليه السَّلام بذنبه، وأنَّه قد قال قولاً لا علم له به .

آزر والد إبراهيم عليه السٍّلام ..

إبراهيم عليه السَّلام يؤكّد في رسالته  أنّ أصل العلاقة بين المؤمنين والكافرين قائمة على العداوة والبغضاء حتّى يؤمنوا بالله تعالى وحده، قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ }. (الممتحنة: 4).
ولرابط البنوّة أراد أن يشفع لأبيه، ويسجّل القرآن الكريم وعدَ إبراهيم لأبيه آزر .. {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}. (الممتحنة:4)، فلمَّا تبيَّن له أنَّه عدوٌّ لله تبرّأ منه، وقال سبحانه في حقه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}. (التوبة:114).

أبو طالب عمّ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام ..

خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد صلَّى الله عليه وسلّم  حين أراد أن يشفع في عمِّه أبي طالب، قال : (( لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عن ذلك)) (مسند الشاميين رقم :3033،4/172)، فنزل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. (التوبة:113).

إنّ جميع الوشائج التي تربط النّاس اليوم ستنقطع، إلاَّ وشيجة واحدة، ليست وشيجة الدَّم والنسب، وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، ... إنّها وشيجة الدّين والعقيدة والتوحيد .. إنها العروة الوثقى، لا تنقطع ولا تنفصم .. لأنَّها مرتبطة بخالق الأكوان سبحانه وتعالى، فما كان  لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.

وفي عصرنا الحاضر نماذج ..

الشيخ حسن يوسف النّائب في المجلس التشريعي الفلسطيني والقيادي في حركة حماس، نموذج فريد لعقيدة الولاء والبراء، حين أعلن أنّه براءٌ من نجله الذي تنكّب عن الصِّراط وانجرف مع تيّار أغواه، وزيّن لهم الكفر والعياذ بالله، تبرّأ من ولده في رسالة بعث بها من أسره في سجون الاحتلال الصهيوني، الذي كان سبباً في غواية ولده.
وجاء في رسالته : (انطلاقاً من موقفنا المبدئي وفهمنا لديننا وما تمليه علينا عقيدتنا، وبناءً على ما أقدم عليه المدعو "مصعب" من كفرٍ بالله ورسوله، والتشكيك في كتابه، وخيانةٍ للمسلمين وتعاونٍ مع أعداء الله وبالتالي إلحاق الضرر بشعبنا وقضيته ، فإنني أنا الشيخ حسن يوسف داوود دار خليل وأهل بيتي (الزوجة والأبناء والبنات) نعلن (براءة تامة جامعة ومانعة) من الذي كان ابناً بكراً وهو المدعو "مصعب" المغترب حالياً في أمريكا، متقربين إلى الله بذلك وولاءً إلى الله ورسوله والمؤمنين).

براءة مطلقة ومعاملة بالحسنى ..

وكي تكتمل الصورة في بيان  التعامل الأمثل مع المخالفين في العقيدة من الأقرباء، لا بد أن نشير إلى أنَّ ديننا الحنيف أرشدنا إلى المعاملة بالحسنى معهم، فقال تعالى في حق الوالدين:{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. (العنكبوت:8). ومن وصلِهما وبرّهما والإحسان إليهما المواظبة على نصحهما بالتي هي أحسن.
فليت علاقتنا اليوم ومصالحنا مبنية وقائمة على هذا الأساس القويم، ومنطلقة من هذا التوجيه الرّباني المتين، ومتأسية بخلق الأنبياء والمرسلين!!
وفي الحديث المتفق عليه؛ عن أسماء بنت أبي بكرٍ الصّديق، قالت: قدِمت عليَّ أمي وهي مشركةٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، قلت: قدمت عليَّ أمي وهي راغبةٌ - طامعة بما عندي من مال-، أفأصلُ أمّي؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: ((نعم، صِلّي أمَّكِ)).
وإذا استجارك المشرك، كانت التربية الرّبانية : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}. (التوبة:6).

وإذا كان من جيرانك، فإنَّ له عليك حقّاً، ففي حديث عبد الله بن عمرو: أنَّه ذبح شاةً، فقال: أهديتم لجاري اليهودي؟ فإنّي سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنَّه سيورِّثُه)).

فليت علاقتنا اليوم ومصالحنا مبنية وقائمة على هذا الأساس القويم، ومنطلقة من هذا التوجيه الرّباني المتين، ومتأسية بخلق الأنبياء والمرسلين!!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

نِعْمَ العبدُ .. إنَّه أوَّاب

قال الرَّاغب في مفردات ألفاظ القرآن : (الأوبُ ضربٌ من الرُّجوع، وذلك أنَّ الأوب لا …