هل تُرانا نلتقي أمْ أنَّها كانت اللُّقيا على أرض السَّرابِ
ثمَّ ولَّت وتلاشى ظِلُّها واستحالت ذكرياتٌ للعذابِ
هكذا أسأل قلبي كلَّما طالت الأيامُ من بعدِ الغياب
هذه أبيات طالما ترنمنا بها وأنشدناها ودمعت أعيننا، فهاجت لدينا مشاعر الحب والشوق لمن فقدناهم من الأحبة ...
وإذا طيفُك يرنو باسماً وكأنّي في استماع للجواب
أولم نمضي على الحق معاً كي يعود الخير للأرض اليباب
فمضينا في طريق شائك نتخلّى فيه عن كلّ الرّغاب
ودفنا الشّوق في أعماقنا ومضينا في رضاء واحتساب
قد تعاهدنا على السَّير معاً ثمَّ أعجلت مجيباً للذهاب
أبيات رقيقة وكلمات خضّبتها الدّموع ، دموع ودَّعت أمينة قطب فيها زوجها وحبيبها، هذه الدّموع التي لم تكن حسرة وندماً على ما قدّمت وقدّم الأحباب من عمل سألوا فيه الشهادة في سبيل الله ، ولكنَّ العين تدمع والقلب ليحزن لفراق الأحبَّة، وهو الفراق الطويل ومعاناة الخطو المفرد بقية الرّحلة المكتوبة، كما وصفتها أمينة.
إلى أبنائنا وبناتنا هذه القصَّة التي مهما بلغ الكتاب والأدباء وابتدعوا في صياغة قصص الحب والتضحية والوفاء، ما بلغوا شأن وروعة قصة هذه السيّدة الفاضلة الأديبة، التي تربّت في عائلة مباركة أنبتت ثماراً طيّبة، فتركت أثراً طيّباً على مسيرة العمل الإسلامي، فهي أخت عمالقة الفكر الإسلامي الحديث الأستاذ الشهيد سيّد قطب والأستاذ محمد قطب ، وزوجة الدَّاعية المسلم الشهيد في داخل معتقله كمال السنانيري.
النشأة ..
أبصرت أمينة قطب إبراهيم الشاذلي النور عام 1909م في قرية موشا بمحافظة أسيوط بصعيد مصر، وكان والدها الحاج قطب إبراهيم قد أحاط أبناءه بأحسن تربية ورعاية، وكانت أمها كذلك ذات خلق ودين وفضل، وكان القرَّاء يرتلون القرآن في دارهم طوال شهر رمضان فحفظت القرآن، وتلقت تعليمها بأسيوط، ثمَّ انتقلت بعد وفاة والدها مع باقي أفراد أسرتها إلى القاهرة ، حيث بدأت فصول أخرى جديدة من حياتها.
من أهم هذه الفصول قصة زواجها، إنَّها نموذج لأروع قصص الوفاء، حيث عقد قرانها في السجن على زوج محكوم عليه بخمسة وعشرين سنة مع الأشغال الشاقة، قضى منها خمس سنوات فقط، وبقي له عشرون سنة!!!
وقوِيَت رابطة المودة بين الزَّوجين رغم بقائه خلف الأسوار، وهنا كانت انطلاقة الشعر عند أمينة حيث كانت تراسل زوجها بقصائد شعرية في صورة رسائل تشدُّ من أزره وتقوِّي عزيمتَه، ويوم واجهت موقفًا حرجًا حين خيَّرها شريكُها بين البقاء على الارتباط وبين الانفكاك منه؛ لأنَّه لا يدري متى سيخرج من السجن، كان هذا الموقف العصيب مفجِّرًا لمخزون الشعر لديها، وكان جوابُها إصرارًا على استمرار العلاقة مع الشريك الدَّاعية السَّجين، فأجابته قائلة : "لقد اخترت يا أملاً أرتقبه طريقَ الجهاد والجنَّة، والثبات والتضحية، والإصرار على ما تعاهدنا عليه بعقيدة راسخة ويقين دون تردد أو ندم".. فأيّ امتحان لصدق المودة والحب أكبر من هذا؟!
عملت في مجال الدَّعوة الإسلامية من خلال جمعية الأخوات المسلمات التي ترأستها زينب الغزالي، واعتقلت عندما اعتقل جميع آل قطب فصبرت على السجن والأذى، واكتوت بالجمر الذي قبضت عليه، ودميت يداها بالشوك الذي وطأته قدماها!! وعاشت تجارب الجهاد والصبر والفقدان، وتجرَّعت الألم، وذاقت فجائع متتالية، وصبرت على استشهاد أخيها سيّد قطب الذي بعث لها رسالة عبارة عن خواطر مهداة لها جمعت تحت عنوان : أفراح الروح، وكتبت له في ذكرى استشهاده :
فأهتف: يا ليتنا نلتقي كما كان بالأمس قبل الأفول
لأحكي إليك شجوني وهمّي فكم من تباريح هم ثقيل!!
ولكنّها أمنيات الحنين فما عاد من عاد بعد الرّحيل
ولكنني رغم هذي الهموم ورغم التأرجح وسط العباب
ورغم الطغاة وما يمكرون وما عندهم من صنوف العذاب
فإنَّ المعالم تبدي الطريق وتكشف ما حوله من ضباب
وألمح أضواء فجر جديد يزلزل أركان جمع الضلال
وتوقظ أضواؤه النائمين وتنقذ أرواحهم من كلال
وتورق أغصان نبت جديد يعم البطاح نديَّ الظلال
فنَمْ هانئًا يا شقيقي الحبيب فلن يملك الظلم وقـف المسير
فرغم العناء سيمضي الجميع بدرب الكفاح الطويل العسير
فعزم الأُباة يزيح الطغاة بعون الإله العلي القــدير
وبعد سبعة عشر عامًا من الانتظار والصّبر، يسعد العروسان بأحلى أيام العمر، ولم يمهلهما الطغاة، بل فرَّقوا بين الأحبة في بداية عامهما السَّادس من الزواج، وقيَّدوا الحبيب بالسلاسل، وألقَوه في سجون الظلم والظلام بُهتانًا وزورًا، لاقى فيها ما لاقاه من التعذيب حتّى صعَدت روحُه إلى بارئها تشكو إليه ظلم العباد.
إنَّ استشهاد زوجها لا يمثّل قضية أمينة التي فقدته، بل هي قضية أمَّة، لأنَّه مات من أجل هذه الأمَّة مثلما استشهد سيّد قطب من قبل، واستشهد الكثيرون في عهد مظلم متجبر .
وناجت أمينة زوجها وطلبت منه الدعاء:
هلاَّ دعوتَ الله لي كي ألتقي بركابكم في جنَّة الرّضوان
هلاَّ دعوتم في سماء خلودكم عند المليك القادر الرّحمن
أن يجعل الهمَّ الثقيل براءةً لي في الحساب فقد بقيت أعاني
ثم تسأل اللهَ تعالى الثباتَ والمغفرةَ، وأن لا يطولَ عيشُها في دنيا الفناء، فهناك نعيمُ الله أبقى، وهناك العيشُ السعيدُ مع الأتقياءِ والمجاهدين، فتقول:
فاغفر الأمنيات يا ربّ عفوًا وأعنِّي دومًا ببرد العــزاء
لا تَدعني للحـزن يطمس قلبي لا تَدعني أعيش دنيا الفناء
واجعل الحبَّ للبقاء المرجَّى في نعيمٍ بعالمِ الأتقياء
برضاءٍ أناله منك يا ربّ وأحيا في فيضه بالسّماء
وقد استجاب الله دعاءها، فرحلت عام 2007 عن عالمنا إلى جنَّات الخلد إن شاء الله؛ لتلتقي هناك بزوجها وأخيها الشهيد ، بعد ما يقارب القرن من العطاء والكتابة والأدب، وإنَّ كتابتها للقصة قد غلبت على كتابتها للشعر، فتركت لنا عدد من المجموعات القصصية، منها تيار الحياة ، في الطريق ، والأطياف الأربعة، ( وهي مجموعة مشتركة مع أشقائها سيّد ومحمَّد وحميدة)، وبالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة نشرت في مجلات مصرية وعربية (1947-1954) منها : مجلة الأديب ومجلة الآداب، ومجلة العالم العربي، وبالنسبة لإنتاجها الشعري فلها ديوانها :(رسائل إلى شهيد) ، واحتوى على مجموعة من القصائد جاءت كأنَّها رسائل وجهتها إلى الزوج الشهيد، وإلى السَّائرين على درب الحق رغم أشواك الطريق.
وكما قال سيّد قطب رحمه الله .... إنَّ كلماتنا ستبقى ميتة عرائس من الشموع لا حراك فيها جامد حتى إذا متنا من أجلها انتفضت حيه وعاشت بين الأحياء ، كل كلمة كانت قد اقتاتت قلب إنسان حيّ، فعاشت بين الأحياء، والأحياء لا يتبنون الأموات ، عاشت كلماتك يا سيّد، وعاشت كلماتك يا أمينة ، رحم الله آل قطب، سجلوا بدمائهم الزكيَّة الطاهرة العطرة أعظم ملحمة في القرن العشرين.
مراجع للاستزادة:-
رائد الفكر الإسلامي المعاصر الشهيد سيد قطب: حياته ومدرسته وآثاره، يوسف العظم .