في جلسة أخويةٍ وديةٍ ،صدمت بسؤال: " من منكن يا أخواتي أكلت من لحم أختها اليوم ؟ " .
وفهمت مرادها سريعاً حين تبادرت لذهني الآية الكريمة من قوله تعالى في سورة الحجرات : { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ..}. (الحجرات : 12).
كم هو أمر عظيم، وذنب جليل، تلك الكلمات التي يتفاخرن بها في جلسات "الصبحية" و"المسوية"، يجتمعن على آخر أخبار الحي، وآخر المستجدات الحارقة فلا تكاد تنتهي الجلسة إلاَّ وشرارات الألسنة قد أشعلت القلوب وملأت الصدور بالضغينة والأحقاد.
ونعدّ أنفسنا بأننا لن نعود لمثلها، فلا ندري إلاَّ وقد عادت الأيام وأعدنا الكرة، وزلت قدم بعد ثبوتها، فهل إلى الخلاص من هذه الآفة من سبيل ؟
يغيب عنَّا في كثير من الأحيان عظم ذلك الذنب والإثم الكبير الذي نجنيه من كلمات لا نلقي لها بالاً، ولكنَّها قد تكون وبالاً علينا يوم القيامة .
كم منّا علمت عظم هذه المعصية فحاولت الابتعاد عنها وعن مجالسه، ولكنَّها وجدت نفسها قد سقطت سهواً في متاهاتها، وكم منَّا أخواتي الحبيبات وقعت في إثمها رغم حذرها منها، ورغبتها في الابتعاد عنها .
المقصود بالغيبة :
الغيبة في اللغة من الغيب، وهو كل ما غاب عنك، وسمّيت الغيبة بذلك لغياب المذكور حين ذكر بسوء.
قال ابن منظور في (لسان العرب): الغيبة من الاغتياب... أن يتكلم خلف إنسان مستور بسوء.
والغيبة في الاصطلاح: عرفها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصَّحيح بقوله : ((أتدرون ما الغيبة ؟))، قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : (( ذكرك أخاك بما يكره)). (رواه مسلم في صحيحه).
قد تبدأ الغيبة بأن تكون من زلات اللسان ثمَّ تصبح عادة، فمرضاً عضالاً متى استفحل وتمكَّن من صاحبه هوى به في وادٍ يصعب الخلاص منه.
فلذلك غاليتي لا تستهيني بكلماتٍ تؤذي أختك، ولو كنت تقصدين منها المزاح أو لفت الانتباه .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال : ((إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يزل بها في النار أبعد ممَّا بين المشرق والمغرب)). (رواه البخاري ومسلم).
وفي الحديث الصَّحيح عن معاذ بن جبل أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟)). قلت : بلى، يا نبي الله، فأخذ بلسانه، وقال: ((كف عليك هذا)). فقلت : يا نبي الله، أو إنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟، قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلاَّ حصائد ألسنتهم )). ( رواه أحمد في مسنده، وابن ماجه والنسائي في سننهما).
فكف أيها اللسان عن الأذى وإلاَّ فمآلك إلى الرَّدى
قال ابن رجب : هذا يدلّ على أنَّ كفَّ اللسان وحبسه وضبطه هو أصل الخير كله ، وأنَّ من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه .
وقال صلّى الله عليه وسلّم : ((إذا أصبح ابن آدم، فإنَّ الأعضاء كلها تكفّر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)). (رواه الترمذي في سننه وأحمد في مسنده، وهو حديث حسن).
قال الإمام الغزالي مبيّناً معنى الحديث : إنَّ نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان ، فاللسان أشد الأعضاء جماحاً وطغياناً، وأكثرها فساداً وعدواناً. ذلك العضو الصَّغير من أعضاء جسمنا ، كيف نتغلب على جموحه وطغيانه ، وهل من طريقة لكفّه عن غيّه .يا معشر من آمن بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله
طرق الخلاص :
1- تقوى الله والاستحياء منه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((استحيوا من الله عزَّ وجل حقّ الحياء ، قلنا : يا رسول الله، إنَّا نستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن من استحى من الله حقَّ الحياء، فليحفظ الرّأس وما حوى، وليحفظ البطن وما وعى . . )). (رواه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، هو حديث حسن).
2- قال أحدهم: لو كنت مغتاباً لاغتبت أمي، فهي أحق الناس بحسناتي ، فأنت أختي الحبيبة حينما تخطئين بحق أختك فتذكرينها بما تكره تأتي يوم القيامة لتأخذ من حسناتك .
قال صلّى الله عليه وسلم: (( أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ، وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناتهم أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) . (رواه مسلم في صحيحه).
روي أنَّ الحسن قيل له: إنَّ فلاناً اغتابك، فبعث إليه الحسن رطباً على طبق وقال: بلغني أنك أهديت إليَّ من حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإنّي لا أقدر أن أكافئك على التمام . .
3- الانشغال بما يفيد . فالفراغ مفسدة، لأنَّه يفتح أبواب الفساد والإفساد، فلا تتركي جزءاً من وقتك دون فائدة .
4- الابتعاد عن رفقاء السوء، ومجالسة الصالحين .
5- اشتغل بعيوبك، ومن منا ليس له عيوب .. قال أنس بن مالك: (أدركت بهذه البلدة – المدينة – أقواماً لم يكن لهم عيوب، فعابوا الناس ، فصارت لهم عيوب، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم) .
قال الحسن البصري : كنا نتحدَّث أنَّ من عيَّر أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله عزَّ وجل به .
قال أبو هريرة: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عين نفسه.
6- عاقبي نفسك كلَّما زلَّ لسانك بحرمانها من أحب المباحات .
7- قراءة سير الصَّالحين والنظر في سلوكهم وكيفية مجاهدتهم لأنفسهم: قال أبو عاصم النبيل: ما اغتبت مسلماً منذ علمت أن الله حرَّم الغيبة . وقال الفضيل بن عياض: كان بعض أصحابنا نحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة. أي: لقِلّته .
وقال محمَّد بن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتَّى استقامت.
وأخيراً .. أختي الحبيبة، استجيبي لنداء حبيبك صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصَّحيح، عن ابن عمر، قال : صعد رسول الله المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)). (رواه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده).
عافانا الله وإيَّاك من أمراض القلوب وزلات اللِّسان، ورزقنا التقوى والإحسان.