يقول الشَّاعر :
وكن رجلا إن أتوا بعده يقولون : مرَّ وهذا الأثر
وإنّي لأقول في عاتكة : وكانت امرأة أتى بعدها .. من يقول زوجة شهداء دُرَر !!
أيةُ بركة هذه لهذه المرأة العظيمة التي ما تزوَّجت رجلاً إلاَّ واصطفاه الله شهيداً .. أتظنين أن ذلك حليف الصدفة ..! لا والله، فكلنا يعرف المقولة التي تقول : " وراء كل رجل عظيم امرأة ." واسمحي لي أن أحوّر هذه أيضاً .!! لأقول : "بجانب كلِّ رجل عظيم امرأة"
امرأة تعينه وتقويه وتشدّ علي يديه ليبقى عظيماً ليكتب التاريخ أمجاده وأمجاد ذريته من بعده .. لا أن يكتبه التاريخ من الذين كانوا عظاماً في عزوبيتهم، وبعدما تزوَّجوا انطفأت شمعة الحماسة من قلوبهم ..
قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (من أراد الشهادة، فليتزوَّج بعاتكة) امرأة تعين زوجها أن يحب أمَّه ويصل رحمه .. ويخدم صحبه وخلِّه، ويفدي دعوته بما أوتي من سلطان وقوَّة ..
هذه هي المرأة التي تستحق أن تخلَّد في التاريخ ويكتب عنها الأثر، ولننظر سوية إلى عِظم هذه المرأة التي سنحدثكم عنها .. إنَّها عاتكة بنت زيد التي تستحق أن نعرفها نسباً وتاريخاً ..
أصلها ونسبها:
هي عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ، مخزومية قرشية من عشيرة عدي بن كعب ، وهي أخت سعيد بن زيد بن نفيل ، زوج فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت فتاة ذات جمال وكمال يسلب الألباب، وهي شاعرة من شاعرات العرب تهوى الأدب، كما كان لديها من الفصاحة والبلاغة ما جعلها لسنة إذا حدثت وبليغة إذا نطقت. كما عرفها الناس بحسن خلقها ورجاحة عقلها. عاشت في كنف الإسلام وكانت من السَّابقين إليه، كما كانت من الذين هاجروا إلى مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قصة زواجها:
قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (من أراد الشهادة، فليتزوَّج بعاتكة)، هذا لأنَّها ما تزوَّجت أحداً إلاَّ واستشهد، وربَّما هذا هو أحد الأشياء التي جعلها من المسلمات الخالدات، كما كان أزواجها كلهم من صحابة رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام.
الزَّوج الأوَّل:
عندما بلغت مرحلة الشباب، تهافت عليها الشباب يطلبونها للزَّواج، وكان من بين هؤلاء الشباب شاب وسيم، والده من أقرب النَّاس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن أوائل المسلمين، وخليفة المسلمين بعد الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام، إنَّه عبد الله بن أبي بكر الصّديق رضي الله تعالى عنهما، فوافقت عليه وتزوّجها.
تزوّج الشابان، وبدءوا حياتهم وبسبب حديثها الحلو وجمالها الفتَّان، صار عبد الله منشغلاً بها عن أداء باقي واجباته ، ونسي أمر مغازيه وتجارته، ولكن أوقفه أبوه عند حدّه كما تقول الروايات، ففي أحد أيام الجمع مرَّ به والده أبو بكرالصديق رضي الله عنه ليذهبا معاً إلى الصَّلاة، فسمعه من أسفل الدَّار يناغي زوجته عاتكة ويحدّثها بالكلام المعسول، فتركه وذهب إلى صلاته ولما رجع ، وجده على نفس الحال فناداه: يا عبد الله أأجمعت؟ فقال عبد الله : أوصلى الناس؟ قال أبو بكر : نعم، قد شغلتك عاتكة عن المعاش والتجارة، وقد ألهتك عن فرائض الصَّلاة، طلقها.
ولأنَّ عبد الله كان ولداً مطيعاً لوالديه، وأدرك أنَّه قصَّر في واجباته تجاه خالقه، وذلك لانشغاله بعاتكة، طلقها وذهب كلٌّ منهما إلى حال سبيله.
ولكن عبد الله مازال يحب عاتكة، فمرَّت به أيام سوداء كالليل المظلم بعد طلاقه لعاتكة مباشرة، وندم على ما صنع وأقسم على الطَّاعة والعمل. ومن ناحية أخرى كانت عاتكة تقرع نفسها وتلومها على ما صدر منها وندمت كثيراً، وعرفت أنَّها كانت سبب انشغال زوجها عن أعماله.
وفي ليلة من الليالي، بينما كان أبو بكر يصلّي على سطح داره وهي ملاصقة لدار ابنه عبد الله، سمعه يقول أبيات من الشعر تدلّ على الندم والشوق إلى المحبوبة، وهنا أدرك أبو بكر ما يدور في نفس ابنه ، كما رق له ، فقام وناداه، وقال : يا عبد الله راجع عاتكة؛ أي: أرجعها إلى عصمتك. ففرح واعتق غلاماً كان لديه اسمه أيمن كرامة لها، ثمَّ جرى حتى وصل إليها، وصار يراجعها ويقنعها مرَّات ومرَّات حتى رضيت وعادت إليه.
لم يكن تردّد عاتكة بسبب تكبر أو حيرة، إنَّما لتتأكد من موقف عبد الله ، فهي لم تكن أقلَّ شوقاً منه. عندما راجع عبد الله زوجته عاتكة ، وهبها حديقة واشترط عليها ألاَّ تتزوَّج أحدا بعده.
وعاشا حياة سعيدة هانئة، ولم ينسيا حق الله عليهم، وكانا ممَّن يضرب بهم المثل كبيت مسلم يضمّه السَّعادة، ولكن لم تدم هذه السَّعادة، فقد استشهد عبد الله في إحدى المعارك، فجزعت عاتكة وبكته ورثته بأبيات منها:
فلله عينـا من رأى مثـله فتـى أكر وأحمى في الهياج واصبرا
إذا شـرعت فيـه الأسنة خاضها إلى الموت حتَّى يترك الرّمح أحمرا
الزَّوج الثاني:
ولم يمرّ وقت طويل حتى خطبها عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، والذي لم يكن غريباً عنها، فهو من أقاربها، وكان معجباً بها، وكيف لا وهي المرأة ذات الجمال الذي فتنت الرِّجال بدينها وأدبها وجمالها.
خطبها عمر، ولكن هناك الشرط الذي اشترطه عليها زوجها السَّابق (عبد الله بن أبى بكر)عندما وهبها الحديقة وهو ألاَّ تتزوَّج من بعده، وأصبح هذا الشَّرط عائقاً في طريق زواجها ، فنصحها عمر وقال لها : استفتي. فاستفتت عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال لها : إن ترد الحديقة إلى أهلـهِ وتتزوّج، وهكذا تزوجت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعاشت معه وكانت زوجة مخلصة، تقوم بأعمال بيتها وتـرعى زوجها وتسعى إلى إدخال السعادة إلى قلبه، وقد رزقها الله منه ولداً اسمه عياض، وهي لم تنس حقَّ ربّها عليها، فكانت عابدة مخلصة لربها.
ولكن كانت الأيام تخبّئ لها رحلة حزن أخرى، فها هو عمر يطعن وهو يصلي، ولم يلبث إلاَّ أن فارق الحياة، فبكته وقالت فيه بعض القصائد منها:
عين جودي بعبرة ونحيب لا تملي على الإمام النجيب
فجعتني المنون بالفارس المعـ لم يوم الهياج والتلبيب
الزَّوج الثالث
وعندما انقضت أيام عدتها، جاءها الزبير بن العوام، حواري رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وابن عمته، جاءها خاطباً، فلم تقبل إلاَّ بعد إلحاح ، فهي كانت تتمنى ألاَّ تتزوَّج. وهكذا تزوَّجت من الزبير بن العوام، وهو رجل شديد الغيرة، فكان غيوراً عليها إلى أبعد الحدود، وفي يوم من الأيام، قال لها: يا عاتكة، لا تخرجي إلى المسجد....وكانت هي امرأةعجوز.
فقالت له: يا ابنَ العوَّام، أتريد أن أدع لغيرتك مصلى صليت فيه مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر؟ هذه هي المرأة التي تستحق أن تخلَّد في التاريخ ويكتب عنها الأثر، ولننظر سوية إلى عِظم هذه المرأة التي سنحدثكم عنها .. إنَّها عاتكة بنت زيد التي تستحق أن نعرفها نسباً وتاريخاً ..
قال: لا أمنعك...ولكنّه كان يخطّط لشيء ما. فلّما صار وقت صلاة الصبح، توضأ وخرج ليكمن لها في سقيفة بني ساعدة، فلمّا مرَّت ضرب بيده على جسدها وهرب.
نظرت عاتكة حولها فلم تجد أحداً، فقالت: مالك؟ قطع الله يدك. ثمَّ رجعت إلى بيتها. فلَّما رجع الزبير من المسجد سألها لما لم يرها في المسجد، فقالت: يرحمك الله، يا أبا عبد الله فسـد الناس بعدك، الصَّلاة اليوم في القيطون أفضل منها في البيت، وفي البيت أفضل منها في الحجرة. وهكذا لم تخرج بعد ذلك اليوم إلى الصلاة في مسجد.
وها هو زوجها الثالث يقتل بوادي السباع، عندما رجع عن الركب الذي ذهب لقتال علي رضي الله عنه، بعدما اقتنع أنَّه لا يمكن أن يستمر في معاداة هذا الرَّجل، فاغتاله عمرو بن الجرموز في الطريق.
وممَّا يبيّن إخلاصها لزوجها بعد وفاته، هو عندما أرسل إليها ابنُ الزبير، عبد الله يحاكيها في إرثها ، لم تبد أيَّ طمع في ماله على الرّغم من ثراء الزبير، وإنَّما رضيت بما أعطوها من الإرث، وهو كما يقال ثمانون ألف درهم.
الزَّوج الرَّابع ..
بعد انقضاء عدّتها من الزبير، جاءها علي بن أبي طالب-كرَّم الله وجهه- خاطباً فقالت له:إنّي لأضن بك يا ابنَ عمّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن القتل، فأخذ برأيها ورجع عن خطبتها، وكان يردّد بعد ذلك: من أحبَّ الشهادة الحاضرة فليتزوَّج عاتكة.
ثمَّ تزوّجها الحسين بن علي بن أبي طالب، فكانت رفيقة جهاده وجلاده، فارتحلت معه الى الكوفة، وصبرت معه يوم كربلاء. فكانت أول من رفع خده من التراب، ولعنت قاتله، والرّاضي به، والشّاهد له دون اعتراض. وقالت باكية وهي ترثيه:
وحسيناً، فلا نسيت حسيناً أقصــدته أسنة الأعــداء
غــادروه بكربلاء صريعاً جادت المزن في ذرى كربلاء
وكان آخر مطاف في حياتها الزَّوجية هي شهادة الإمام الحسين -رضي الله عنه- فتأيمت بعده. ويقال : إن مروان خطبها بعد شهادة الحسين، فرفضته وقالت: ما كنت لاتخذ حمأً بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
وكان وفاتها سنة أربعين للهجرة، فلقيت وجه ربّها رضي الله عنها وأصبحت القصة الحزينة لهذه المرأة الجميلة وأزواجها الذين انتهت حياتهم الواحد تلو الآخر بمأساة، ورواية خيالية يردِّدها الناس وجملها أكثر قصائدها في الحب والرثاء. غفر الله لنا ولها آمين.
وختاماً نقول :
إنّ عاتكة امرأة عربية من وسط الصَّحراء والبادية، أصبحت ضمن من هم في ذاكرة الزَّمن، وقد كتب عنها من كتب، ليس فقط لجمالها الذي تميَّزت به، ممَّا جعل كثيراً من الشباب يتقدَّمون لها في شبابها، وإنَّما حسن أدبها وخلقها وحكمتها، ولأنَّ الله ميَّزها بأن جعل من يتزوّجها ينال الشهادة ، وهذا ما جعل عشَّاق الشهادة يتهافتون عليها، وينساقون إليها في كبرها طالبين القرب منها. وقد اتصفت إلى جانب ذلك بالإخلاص في كلِّ شيء : الإخلاص لربّها ولدينها ولأزواجها.
مراجع للاستزادة :
- تاريخ الطبري
- فتح الباري لابن حجر
- البداية والنهاية لابن كثير