لا يخلو عمل أخروي يبتغى به وجه الله أو دنيوي يُسعى من خلاله إلى تحقيق مكاسب ونجاحات على مرّ التاريخ والعصور من أسرار، مما يحدو بالقائمين على تلك الأعمال إلى اختيار أوعية قوية آمنة لحفظها وكتمها؛ لأنَّ كتمان السر يساعد على النجاح في الأعمال، ويؤمن السالك من أخطار الطريق ، ويريح الضَّمير، ويحفظ للإنسان مكاسب طيبة مادامت بعيدة عن علم الآخرين، ولا يتيح للمنافس أو العدو فرصة يظهر بها عليه أو ينال بسببها منه.
الذي يحفظ السِّرَّ رجلُ قويُّ الإيمان والإرادة ، صلبُ العزيمة استطاعَ أن يجاهد نفسه ويقهر شيطانه، ومن هنا يمكن للإنسان أن يأنس به ويستريح إليه في صداقة أو معاملة
أما إفشاؤه فهو موجب للضغينة، مُوقع في الحرج، مفرِّق بين الأحبة، مخرِّب للأسرة، مسبّب في اضطراب الأمن وشيوع الفوضى والفلتان، ويستطيع العدو المتربص بنا النيلَ من الفرد والجماعة، فقد يكون عند الإنسان ثروة لو عرف غيرُه سرَّها لأغرى اللصوص إليها، وقد يكون تخطيط لعملية استشهادية بطولية لو عرفها العدو لأفاد منها، ولسعى لإحباطها وإفشالها في مهدها، وقد يكون السَّر كلمة، أو اسماً لموقع، أو اسماً لشخصية، لو عرفها العدو أو من يعمل معه لكانت النتائج لا تحمد عقباها بسبب إفشاء السِّر.
إنَّ التشريع الإسلامي؛ المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، أدرك أهمية حفظ الأسرار وكتمانها في واقع المسلمين، وضرورة إيلائه اهتماماً بالغاً وحرصاً مستمراً وعناية فائقة من كل جوانبه وفي مختلف مواضيعه، ولا فرق في ذلك كلِّه بين القادة والجند، أو بين الرؤساء والمرؤوسين. ومن أجل ذلك جاء التحذير الشديد من إفشاء السر، وجاء الأمر بحفظه وصيانته، ففي قوله تعالى على لسان يعقوب لابنه يوسف حينما قصَّ عليه رؤياه بسجود الكواكب والشمس له : {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. (يوسف:5).
ومن السنة النبوية، ما رُوي عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم : ((إنَّ العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس، يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإن المرء ليزل على لسانه، أشد ما يزل على قدميه)). رواه البيهقي في شعب الإيمان، وفيه ضعف.
إنَّ الأمين على السِّر أقوى وأكمل إيماناً من الأمين على المال؛ لأنَّ العفَّة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار
ومن الأقوال المأثورة نجد : (استعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان، فإنَّ كلَّ ذي نعمة محسود). قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : (سرّك أسيرك ، فإن تكلمت به صرت أسيره)، وقال عتبة لابنه الوليد : (من كتم سرَّه كان الخيار بيده، ومن أفشاه كان الخيار عليه).
إنَّ الأمين على السِّر أقوى وأكمل إيماناً من الأمين على المال؛ لأنَّ العفَّة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار، ولأنَّ الإنسان قد يذيع سر نفسه بمبادرة لسانه وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله حفظاً له وضناً به، ولهذا كان أمناء الأسرار أشد تعذراً، وأقل وجوداً من أمناء الموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار لأنَّ إحراز الأموال منيعة وإحراز الأسرار بارزة ، يذيعها لسان ناطق ويشيعها كلام سابق.
والذي يحفظ السِّرَّ رجلُ قويُّ الإيمان والإرادة ، صلبُ العزيمة استطاعَ أن يجاهد نفسه ويقهر شيطانه، ومن هنا يمكن للإنسان أن يأنس به ويستريح إليه في صداقة أو معاملة.