القرآن الكريم ومنهج الإصلاح

الرئيسية » بصائر الفكر » القرآن الكريم ومنهج الإصلاح
alt

الصَّلاح والإصلاح، والفساد والإفساد، كلمات لا يخلو نقاش أو درس أو خطبة منها، اتجهت نحوها الأعين، وتكلَّمت بها الألسن، ونظّر لها المنظّرون، وخطب بها الخطباء، حتى بات ادّعاء الإصلاح، سلماً لكلِّ صاعد، ومركباً لكلِّ مُبحر، في عالَم الدّين أو السِّياسة، أو حتّى في أقلّ الأمور شأناً.

ولمَّا كان القرآن كما ورد في الأثر: "فيه نبأُ من قبلنا، وخبرُ ما بعدنا، وحكمُ ما بيننا"، لزم أن نردّ إليه أمرنا، مهتدين، مستنيرين به، باحثين عن حكم ما بيننا فيه، وفيه ذلك قطعاً.

ووسط انشغالنا بالتخلص من الفساد المستشري، لزم الرجوع في الأمر إلى سيّد الأمر، ألا وهو القرآن، فكما أسلفنا: فيه حكم ما بيننا، فننظر كيف تناول القرآن الفساد والصّلاح، الإفساد والإصلاح، وكيف وجهنا الله لمواجهة الأول، وتحقيق الثاني.

تناول القرآن مفردات مشتقة من أصل الصّلاح والفساد، في مواضع عدَّة، وخطَّ لنا منهجاً قويماً في فهم هذين العنصرين المهمّين في حياتنا، وقدَّم لنا أسلوباً واضحاً في توصيف أحوالنا، وتوجيه أفعالنا، وإظهار أحكامها.

تقابل الكلام عن الفساد والإصلاح في القرآن الكريم، منها قول الله تعالى:{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}[البقرة، 12]، وكذلك في قوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح}[البقرة، 220]، والمتأمل في كلا الآيتين يجد إشارة يجدر الوقوف عندها ، حيث تناول الفساد والمفسدين، لم يقابلهم بالصَّالحين، وإنَّما قابلهم بالمصلحين، وهنا يكمن الفرق، وهنا يبدأ يخط لنا منهاجه القويم في مبدأ الإصلاح.
إن الأمة التي يقودها أراذلها ويتصومع فيها أهل الصلاح ويمتنعون عن الإصلاح ستهلك بلا شك.
سألت عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال:" نعم، إذا كثر الخبث"، بينما يقول الله عزّ وجل:{وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}، قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة إلهية تقضي بإهلاك الناس إذا كثر خبثهم، ولو كان فيهم الصّالحون، فأمَّة يقودها أراذلها، ويتصومع فيها أهل الصّلاح ويمتنعون عن الإصلاح ستهلك، كما أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يشترط في الهلاك أن يكون على شكل من أشكال الهلاك التي حدثنا القرآن عنها مما أصاب الأقوام السَّابقين، فالهلاك له صور كثيرة، لعلَّ منها ما نحن عليه اليوم من ضنك في الحياة، وفقر في المعاش، وجهل في المعرفة، ولعلَّ هذا أشد .

وبينما يرسم لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صورةً واضحةً، وسنةً لا تبديل عنها، في إهلاك الأمم بكثرة الخبث فيهم، يرسم لنا ربنا سنة مقابلة، سنة رفع الهلاك، بقوله تعالى:{وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}.
وهنا حق لكلِّ من قرأ هذه الآية ووعيها أن يهتف بنفسه من أعماقها: أريدك يا نفسي مصلحة.

الصَّلاح ينطبق على من أدى فعلاً صالحاً واحداً، أمَّا الإصلاح، فإطلاقه على من كان ديدنه الإصلاح، ويمارسه باستمرار، فالمصلح مقيم على الصَّلاح، مستمر عليه.
الصَّالح والمصلح
تسعفنا اللغة العربية بما فرّقت بين وزني الكلمتين، أمّا الصالح: فهو اسم فاعل، واسم الفاعل يدل على أداء الفعل، دون مزيد معنى، أمّا مصلح: فهو صفة مشبهة، تزيد على الأول بالدلالة على الديمومة في الفعل، فالصَّلاح ينطبق على من أدى فعلاً صالحاً واحداً، أمَّا الإصلاح، فإطلاقه على من كان ديدنه الإصلاح، ويمارسه باستمرار، فالمصلح مقيم على الصَّلاح، مستمر عليه.

والفرق بينهما في الصّورة العملية أوضح وأظهر، فرجل يمكث ساعات يقرأ القرآن في محراب،صالح، ورجل يمضي ساعات يعلم القرآن مصلح، رجل منكفئ على ذاته بين كتبه صالح، ورجل لا يتعلّم مسألة ولا حكماً إلاَّ انطلق داعياً إليه، مصلح، رجل لا يظلم الناس حقوقهم، صالح، ورجل يحاول كل جهده رفع الظلم عن الغير، مصلح.
فالصَّالح يرجو سلامة نفسه، والمصلح يرجو سلامة نفسه ومن حوله، الصَّالح قد يكون من الأولياء، أمَّا المصلح فإنَّه من ورثة الأنبياء، الصَّالح ينتهي حيث ينتهي أمره، والمصلح لا ينتهي إلاَّ حيث ينتهي أمر الناس من حوله.

والإسلام لا يقدّم في أيّ من شعائره درجة واحدة يجتمع عليها الناس جميعاً، بل يقدِّم منهجاً متكاملاً في ترقي سلم الفضيلة، ويتنقل المصلح من خير إلى خير أعظم، ومن واجب إلى واجب آكد، وكما قيل: خطايا المقربين، قُربات الصَّالحين، فهو لا يرضى لنفسه أن يقف عند حد، بل يغادر الأدنى للأعلى، ولا يهدأ له حال، بل يظل على أهبة الاستعداد طامحا بما هو أسمى.

هكذا يقدِّم لنا القرآن منهج الإصلاح، لذلك ونحن نواجه الفساد المستشري في الأرض من حولنا، لا بد من وعي تام بالمنهج القرآني في مقارعة الفساد، وهو منهج الإصلاح، وإعداد المصلحين.

كيف أكون مصلحا؟
المصلح مع ربِّه، يقوم بحقوقه جلّ في علاه دون طلب حظه، فلا يسأل كرامة، ولا ينتظر ولاية، بل يجدّ في أمر به الله من أوامر، وهو مسلّم راض، شأنه في ذلك:{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.

والمصلح مع نفسه في ترقٍ دائم، يجاهد نفسه في كل لحظة، ليرتقي بها، وإن كان أرباب المهن يسألون مقدمي طلبات العمل عن خبراتهم ليتأكدوا من تنميتهم لمهاراتهم، فالمصلح مع نفسه هكذا شأنه، يمارس نشاطاته على درجة عالية من التطوير والتحديث، فلا يقنع بتهجد ساعة، بل يسعى ليكون ساعتين، ولا يرضى بفهم مسألة من كتاب واحد، بل يسعى لأن يتعرف على المسألة من كتب أخرى، ولا يرضى بالعدل، بل يقدم الفضل، ولا يرضى لنفسه عبادة العوام، بل يسعى إلى عبادة الخواص، ومن ثم خواص الخواص، هكذا حاله، همة متقدة، وقلب معلق بمعالي الأمور، لا يرضى لنفسه الدنية، ولا تقنعه إلى المرتبة العلية.

والمصلح مع غيره خادم دون أجر، لا يقبل على نفسه أن يعلم ولا يعلّم، ولا يرضى لذاته أن تذوق ولا تذوّق، ولكنه دائما أبدا في الناس كالغيث أينما حل نفع، يقدم على الخير إقدام غيره على مصالحه، يتخد غايات غيره وسائل له، فهم يصلون في المسجد لذواتهم، وهو يصلي في المسجد دعوة لغيره، أو تفقداً لأهل حيّ، أو اطمئناناً على صلاة أحدهم، يريد أن يجعل الناس على سوية من الأمر، واستقامة في الحال، يراهم كما يرى الأب أبناءَه، ويرعاهم كما ترعى الأم أطفالها.

بأمثال هؤلاء نواجه الفساد والإفساد، ونخطو الخطوة الأولى على طريق الإصلاح والسّداد،. والسنة الإلهية في رفع الهلاك عن المصلحين عامة للناس جميعا، مسلمهم وكافرهم، وما تقدّم الغرب العادل وتأخر الشرق الظالم إلاَّ دلالة واضحة على جريان السنة الإلهية مطلقاً.

وكما قيل في الشعر:
إذا غامرت في شرف مروم .... فلا تقنع بما دون النجوم

فالمسلم لا يقنع إلاَّ بمعالي الأمور وأسماها، يجدّد عهده مع الله سائلاً الفردوس الأعلى من الجنَّة، وبيعته مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم مرافقاً له فيها.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

التدجين الناعم: كيف يُختطف وعي الأمة؟ (2-2)

تحدثنا - بفضل الله تعالى- في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:- توطئة عن الموضوع. …