لم تكن تدري الخالة "أم بدر" بأنَّ هديتها لابن شقيقتها "رامي" لتفوّقه بالمدرسة بمجموعةٍ من الكتب والقصص، ستجلب لها كلمات السّخرية والاستهزاء من هديةٍ لن تصلح سوى للمدفأة في البرد القارص.
وهو يقذف بالكتب في أقصى ركنٍ من الغرفة، قال رامي بحروف التذمر: " لا أدري يا خالتي، لماذا كلفتي نفسك بتلك القصص والكتب؟؟.. لو أنَّك أحضرتي مجموعة من أفلام الأكشن والرّعب.. أو سلسلة من الألعاب الحربية، لكان أفضل بكثير..".
عبارات نزلت كالصَّاعقة على رأس الخالة المصدومة، وبحرقة أخذت تتساءل: "إذا كان الشباب المتفوق والواعي يتكلم بتلك اللغة الخالية من أدنى احترام للكتاب والعلم والثقافة.. فلا عتب لنا على الشاب الجاهل والأمي".
جهل= تخلف
الصديقان "مازن وأكرم" رفيقان من أيام الصبا اتفقا على تمضية يوم الجمعة معاً.. فاقترح مازن الذهاب لمنتجع "الشاليهلات"، وباستغرابٍ لف صوت أكرم قال: " ألم تجد سوى الذَّهاب لهذا المكان البائس؟ هناك الكثير من أماكن الترفيه أخرى"، وبتعجّب من كلماته أجاب مازن: " بائس! كيف ومتى؟ هو مكانك المفضل؟".
بابتسامة ساخرة ردَّ أكرم: "ألم تعرف؟، يوجد هناك معرض للكتاب وأكره رائحة الكتب والحبر ولا أطيق مشاهدتها"، ووسط قهقه الصّديقان وسيل من حروف السخرية اللاذعة قرَّرا تغيير المكان.
وتحت عنوان "أزمة قراءة" عنونت الطالبة الجامعية "نور عبد الله" المشكلة قائلة: " أجيالنا تتخبَّط الآن في أمواج من الجهل الهادر والأمية اللامنتهية.. هم لا يدرون إلى أيّ مستنقعٍ يذهبون ونحو أيّ هاوية يسوقون مجتمعاتهم وبلدانهم".
وبيَّنت أنَّ سبب العداء بين الكتاب والشباب يعود للأسرة؛ التي لم تزرع بداخلهم بذور حب القراءة، ولم تهتم بتلك الصَّفحة البيضاء التي أهداه الله لهم، بل لوَّثوها فوق لوث الحياة، وزادوا من شناعتها وقبحها.
وشدَّدت على أنَّ تخلّفَ أمتنا في عالم الاطلاع وعدم اكتراثها بمستجدات بأمور المعرفة والثقافة، هو ولا شك فرع لمبدأ تخلفها الحضاري العام، وإنَّ إصلاح أيّ أمة لا يكون بالقضاء على الشرور، بل وبتثقيفها ثقافة صحيحة، ورفعها إلى مستوى الإنسانية الحق.
وتساءل الشاب "خليل محمَّد" قائلاً: " كيف للشاب أن يفهم حاضره ويواجه متطلبات مستقبله دون قراءة وثقافة واطلاع؟!.. وكيف له أن يسير في درب الحياة دون أن يستند لأرضٍ صلبة يستقي منها الحقائق والمفاهيم والعبر من الماضي والحاضر؟".
وبقوَّة تابع: " الثقافة لم تعد حكراً على فئة دون أخرى.. وعجلة الزَّمن تدور دون رحمة بعاجزٍ ولا جاهل والسير معها لا بد له من حجز مسبق بتذكرة الصّناعة والإنتاج والتطور والجودة.. وللأسف في وطننا العربي لا نجيد صنع مثل تلك التذاكر! ".
وبأسف تابع: " فنحن كما يقولون أمة اقرأ، ولكنَّنا للأسف لا نقرأ.. بعكس الغرب الذين يعطون القراءة دوراً مهماً في حياتهم، ويخصّصون من وقتهم ساعاتٍ يوميّة للقراءة.. حتّى إنَّ المتعارف لديهم عندما يهم أحدهم ببناء بيت له، يضع في حسبانه تصميم المكتبة على الخريطة الهندسية قبل تصاميم باقي البيت.. فأين نحن من ذلك؟!".
انسلاخ فكري
الشباب مطالب اليوم أكثر ممَّا مضى بزيادة التسلح بالثقافة العلمية السَّليمة المبنية على الحقائق والمعارف والقيم المثلى النبيلة.. والغزو الفكري والثقافي اليوم لم يعد بحاجة إلى بعثات ورحلات، بل أصبح يأتينا جاهزاً عبر صفحات الإنترنت والمواقع الاجتماعية والفضائيات صاحبة الأشكال والألوان، هذا ما أكَّده الشاب إبراهيم سلامة.
يضيف سلامة:" ويكون تأثير الغزو أكبر في المجتمعات التي شبابها غير مثقفين؛ حيث تتم تغذيتهم بثقافة مغايرة لمعتقداتهم وقيمهم، ويغرس فيهم الحقد بدل الحب.. والموت بدل الحياة.. والتدمير بدل البناء".
وأكَّد أنَّ مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى بذل اهتمام أكبر بشبابنا وتوعيتهم وتثقيفهم، بدلاً من تركهم في وحل الجهل والتخلّف، فالوقاية والبناء يبدءان من القراءة والمطالعة والثقافة.
لا يحترمون الكتاب!
ولعلَّ المراقب لجيل الشباب اليوم يلاحظ اتساعَ الهُوَّة بينهم وبين القراءة، وابتعادَهم عن كلِّ مغذّيات العقل والرُّوح، فجيل الشباب من المكتشفين والمخترعين انقرضوا ولم يعد لهم أثرٌ، وبات جيلُ المقلدين السطحيين هم الواجهة الرَّئيسة لكلِّ مجتمعاتنا العربية.
وفي هذا المجال، تروي "الشَّابة"سمر قصة مؤلمة، حدثت مع شقيقها "أحمد وسامر" اللذين كانا منغمسين في متابعة "المصارعة الحرَّة" برنامجهم الرِّياضي المفضَّل حينما دخلت عليهم كي تؤنبهما على تضييع يومهما بالكامل في أمور "تافهة" لا تغني ولا تسمن من جوع.
وتقول: إنها كانت حينما تلقي على مسامع شقيقيها محاضرتها المعتادة، قاطعها أحمد بعلامات استفهام حائرة: " يعني شو نروح نعمل ...خلصنا دراسة ؟؟.. بدك كلّ الناس مثلك تضيع وقتها بين الكتب والرّوايات"، وعلت قهقهات "سامر" مضيفاً: "آل كتاب آل يعني كل هالسَّاعات الحلوة تروح في قراءة حروف وكلمات، ومش عارف من وين جايبين.. شو هالهبل هذا..!! ".
ضربت "سمر" أخماساً بأسداس متمتمة بصوتٍ مقهور: "صدقاً ما نحن فيه من انهدام حضاري وقيمي وأخلاقي لم يأتِ من فراغ.. ولن نصنع حضارتنا ونعانق باقي الأمم المتقدمة إن لم تصحو هذه الأجيال الغارقة في سباتٍ عميق".