إنَّ المطلع الآن على حال الأمة الإسلاميَّة يجد الكثير من الأمور التي تستوجب إعادة النظر والتفكير فيما يخص طبيعة الحراك الفكري والعملي للأمَّة، سواء على المستوى الفردي أو المستوى الكُلِّي العام، مع كونها ذات أهمية خاصة في تحديد وجهة بوصلة الأمة، وإعادة إحيائها.
ومن بين أبرز هذه الأمور ما يُمكن أن نطلق عليه اسم طبيعة اهتمامات المسلمين، فما بين قضايا ذات طابع آنيٍّ إلى قضايا ذات ارتباط بأمور ظاهريَّة؛ ضاعت الكثير من القضايا الكُلِّيَّة شديدة الأهمية، والتي كان من المفترض ألاّ يمكن تجاهلها أو تجاوزها إذا ما أرادت الأمة الاستمرار على قيد الحياة، واستيعاب متغيرات العصر وتطوراته، تمهيدًا لبدء العودة إلى ممارسة دورها الحضاري القديم الذي سقط بسقوط دولة الخلافة العثمانية، آخر خلافة إسلامية.
ويرى الكثيرون أنَّ اهتمام المسلمين بالأمور ذات غير الأولويَّة، والأمور المحسوبة جزئيات، قد أدى إلى الفجوة الحضارية التي وقعت فيها الأمة في الوقت الراهن، وأن إعلاء قيمة الجُزئيَّات والفرعيَّات على حساب الكُلِّيَّات والأصول قد أدى إلى إهمال الجوانب الأهم للدين ومقاصده في خلافه الله عزّ وجل وعبادته وإعمار الأرض وفرض شريعة الله سبحانه وتعالى وإنفاذها، حتى أصبح الإسلام في نظر البعض عبارة عن بعض الشعائر والأمور المظهريَّة، وكل من يخالف ذلك في نظر هؤلاء؛ صار يُنظر له على أنه ناقص الإيمان، وأن هناك الكثير من أوجه الخلل في عقيدته.
تأصيل المصطلح:
يُقصد بمصطلح "الكُلِّيَّات" لغةً، المعاني والقواعد العامة المُجرَّدة، التي تشكل أساسًا لما ينبثق منها، وينبني عليها من الجزئيات أو الفرعيات الأخرى، أي أن مصطلح الكليات يقابله الجزئيات أو الفرعيات.
الكُلِّيَّات في الإسلام هي الأمور العامة التي جاءت في الأصول، أي في القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة المُطهَّرة
وفي الاصطلاح فإن الكُلِّيَّات في الإسلام هي الأمور العامة التي جاءت في الأصول، أي في القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة المُطهَّرة، والمرتبطة بالأساس بالمقاصد التي نزلت الشريعة الإسلاميَّة لحمايتها وصيانتها، وهي: حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل أو العرض، وما اتصل بها من أمور.
ويقول الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن الكريم" : إنَّ المحكمات هي الأصول والأمهات لغيرها، وإنَّ مجمل الدين وشريعته قائم على هذه المحكمات. ويقول أيضًا: "المُحْكَم أبدًا أصل تُردُّ إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع"، أمَّا ابنُ عاشور في التحرير والتنوير، فيذهب إلى أنَّ الآيات المحكمات والكليات في القرآن الكريم هي الأصل والمرجع الذي يُرجع إليه في فهم الكتاب ومقاصده، وقال أيضًا : إنَّ المحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ.
أمَّا الآية الثانية فقد ذكرت أن القرآن الكريم عبارة عن آيات تمَّ إحكامها، ثم وقع تفصيلها، ويقول القرطبي: "أي: نُظِمَت نظمًا محكمًا، لا يلحقها تناقض ولا خلل".
أما في السنة النبوية الشريفة، فلو أننا دققنا في سيرة الرّسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وفي منهجه في نشر الدعوة؛ لوجدنا أنه "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" أقام في مكة المكرمة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس ويربيهم على الأصول والكُلِّيَّات.
والمتأمل في آيات القرآن المكِّيِّ؛ فإنَّه سوف يجد أنها ركَّزت على القضايا العامَّة للدين ومقاصده الأساسيَّة، مثل أركان الإيمان، ممثلة في الإيمان بالله سبحانه تعالى وباليوم الآخر وبالملائكة والكتب والأنبياء والمُرسلين والقضاء والقدر خيره وشرِّه، وكذلك أصول الأخلاق والآداب وأساسيات السلوك ومبادئ المعاملات؛ حيث ركزت آيات القرآن المكِّيِّ على هذه الأمور، بينما جاءت فيها بعض التشريعات، والتي استكملها القرآن المدنيُّ.
وبالرغم من أنَّ آيات القرآن الكريم التي تنزَّلت على النبيِّ "عليه الصَّلاة والسّلام" في المدينة المنورة، قد زادت في الجانب التشريعي، بعد استكمال الكثير من الجوانب الكُلِّيَّة في الآيات والسُّور المكيَّة؛ فإنَّ المتأمل في سيرة الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، سوف يجد أنَّ الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قد استمر في منهجه في التركيز على الكُلِّيَّات التي كان يلقنها للصحابة الأوائل في مكة المكرمة.
ويعود ذلك إلى أنَّ المجتمع المسلم في المدينة المنورة كان لا يزال في طور التكوين الأوَّلي، وكان من الضروري استكمال أركان العقيدة الأساسيَّة فيه.
وفي هذا يقول الشيخ محمد الغزالي "رحمة الله عليه" في كتاب "فقه السيرة" في هذا الأمر: "شُغِل رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" في أوّل مستقره بالمدينة بوضع الدعائم التي لابدَّ منها لقيام رسالته"، والتي من بينها تحديد صِلة وعلاقة الأمة بخالقها، الله عزَّ وجلَّ، وصِلة الأمة بعضها بالبعض الآخر، وأخيرًا صِلة الأمَّة بالأجانب عنها ممَّن لا يدينون بدينها.
الجزئيات على حساب الكُلِّيَّات:
يذهب بعضُ المسلمين في وقتنا الراهن إلى الوقوف عند ظواهر النصوص، ولكن من دون النظر إلى علل الأحكام ومقاصد الشرع أو الالتفات إلى ذلك، ومن المقرر عند علماء الأصول أن الشريعة مبنيةٌ على اعتبار المصالح، كما إنّه من غير الممكن أن تستغني النصوص الجزئية عن الكُلِّيَّات في الشريعة.
ويدفع الاهتمام بالجزئيَّات والإغراق فيها على حساب الكُلِّيَّات إلى اختلال التوازن في التعامل مع أمور الدين، ويقول العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إن من واجب كل مسلم "وضع كل شيء في مرتبته، فلا يؤخر ما حقه التقديم، أو يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغر الأمر الكبير، ولا يكبر الأمر الصغير".
وهو ما كان أمرًا شديد الوضوح في السيرة النبويَّة الشريفة؛ حيث كان البدء بإرساء أسس العقيدة والأخلاق، لا تحطيم الأصنام، ويقول القرضاوي أيضًا إنه من الأولويات مراعاة النِّسَب للتكاليف الشرعية؛ فالعقيدة مقدمة على العمل, والأعمال متفاوتة لها أعلى وأدنى، وفقه الموازنات متداخل مع فقه الأولويات.
ومن بين مظاهر هذه المشكلة، اهتمام البعض بأداء العبادات على مستوى المناسك فحسب، من دون النظر إلى المعنى والمستهدَف من هذه العبادات، ومسألة ضرورة أن تنعكس على سلوك المسلم، فهناك من المسلمين من يُكثِر من أداء فريضة الحج، ولكنَّه لا ينفق ماله هذا في نُصرة المسلمين في الأماكن التي تقع تحت الاحتلال، أو يتعرَّضون فيها لظلمٍ وإجحاف، كما في فلسطين والشيشان وأفغانستان، أو توجيه هذه الأموال إلى إغاثة أصحاب المجاعات، أو مواجهة التنصير، أو دعم البحث العلمي في مجتمعاتهم.
وكذلك يجب أن يكون العمل الإسلامي في عصرنا هذا، لا يطغى فيه جانب على جانب، أن يكون عملاً مُتكاملاً، مترابطًا في كلّ جزئياته وكلياته، وأن يهدف إلى تحقيق الغايات الكبرى الموضوعة للمسلم.
ضرورة الموازنة:
هناك أهميَّة مقاصدية كبرى للموازنة بين الأمرَيْن؛ فلا نُغالي في الجزئيَّات على حساب الكليات، أو المغالاة في اعتبار المقاصد الشرعية والكُلِّيَّات والمصالح على حساب النصوص
من ثَمَّ، فإنَّ هناك أهميَّة مقاصدية كبرى للموازنة بين الأمرَيْن؛ فلا نُغالي في الجزئيَّات على حساب الكليات، أو المغالاة في اعتبار المقاصد الشرعية والكُلِّيَّات والمصالح على حساب النصوص بحجة الأخذ بروح الشريعة؛ حيث يعطل البعض النصوص لصالح التأويل والنظرة الذاتية على ضوء فهمهم لمقاصد الشريعة، حتى إن البعض يدعو إلى تقديم النظر المقاصدي ولو أدى إلى تجاوز النصوص القطعية.
كما إنَّه لا مانع من أن يبحث الناس في المسائل الفرعية، ولكن الخطر أن يصبح البحث في المسائل الفرعية الهدف أو الغاية، ومبلغ العلم، وأن تتضخم حتى تأخذ الاهتمام والوقت كله، على حساب اعتبارات بناء البنيان الديني والثقافي والحضاري للمسلمين من جديد، أو على حساب أولوياتهم الأهم في قضايا الواقع السياسي والحضاري المعاش.
ويذهب البعض إلى أنَّ هناك ضرورة كبرى لإعطاء أولوية في الفكر والعمل لقضايا مثل فلسطين والأقصى وأوضاع الأقليات الإسلاميَّة ومقاومة الأنظمة الحاكمة الظالمة التي تنهب ثروات المسلمين، وأدت إلى تخلفهم الحضاري، عن الانشغال بأمور من نوعيَّة التورك في الصلاة، أو حكم حلق اللحية؛ بينما يموت المسلمون جوعًا في الصومال، ومحاصرون في غزة، وبرصاص الظلم في الشيشان، وقهرًا في الكثير من بلداننا العربيَّة والإسلاميَّة التي لا تزال "تحتلها" أنظمة ظالمة مستبدة!.