أطلقوا عليه الرَّجل الصّلب، والرَّجل الأقوى في غزَّة، نعتوه مرَّة برئيس أركان حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وكان آخر وصف به "مهندس" صفقة تبادل الأسرى الفلسطينيين بالجندي الصهيوني "جلعاد شاليط".
إنَّه أحمد الجعبري نائب القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسَّام، وهو من أهم المطلوبين لإسرائيل التي تتهمه بالمسؤولية عن عدد كبير من العمليات ضدها، فلاحقته ودبَّرت له عدَّة محاولات اغتيال نجا منها، فقصف منزله في العدوان الصهيوني الأخيرة على غزة، وبالطبع لم يكن بداخله.
لمع صيته في الأيام القليلة الماضية، فقد كان من أبرز من تصدّرت صورته شاشات التلفاز العالمية؛ إذ ظهر وهو يمسك بشاليط أثناء تسليمه للسلطات المصرية، فتساءل الناس من يكون هذا الرَّجل الذي يغامر بحياته ويظهر على العلن ليقول للجميع: إنَّه المسئول الأوَّل عن إخفاء شاليط، تساءل الناس من هذا الرجل الذي حيّرت كتائبه كثيراً من أجهزة الاستخبارات العالمية، وعلى رأسها بالطبع جهاز الموساد الصهيوني لمعرفة مكان إخفاء شاليط.
بسببه أصبحت قصة شاليط من أعجب وأغرب أعمال الاستخبارات والجاسوسية والأعمال العسكرية، إذ نجحت كتائب القسَّام على مدى خمس سنوات في إخفاء الجندي الصهيوني المأسور في عملية عسكرية من أبرع العمليات النوعية للمقاومة الإسلامية حماس، رغم كثرة البصاصين والجواسيس والتحقيقات، ورغم حرب شنَّت على غزة دكت خلالها معظم أبنية غزة لعل وعسى تصيب إحدى قذائفها مكان احتجاز شاليط، فيرتاح الصهاينة من لعنة الفشل التي كانت تلاحقهم في كل مكان.
كان بإمكان الجعبري (50 عاما) أن يظهر ملثماً حتّى لا يتعرّف أحدٌ على هويته، وحتى لا يكون صيداً سهل المنال منه إلاَّ أنَّه أبى إلاَّ أن يبعث برسالة للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أنَّه أوفى بالوعد الذي قطعه على نفسه وهو ويودّعهم قبل الإفراج عنه من تلك السجون عام 1995م، بعد أن قضى ثلاثة عشر عاماً في سجون الاحتلال، فقد ذاق مرارة الأسر، وكان عليه أن يحرّر أبناء شعبه من هذه المرارة.
من هو الجعبري؟
إنَّه أحمد سعيد خليل الجعبري، المعروف في أوساط المقربين منه “أبو محمد”، حاصل على شهادة البكالوريوس في التاريخ من الجامعة الإسلامية بغزة، وله "بصماته في تطوير عمليات كتائب عز الدين القسَّام" - حسب وصف تقرير إسرائيلي له - وقد ظلَّ متمسكاً بملف الجندي شاليط منذ أسره في 25 يونيو/ حزيران 2006م.
ولد الجعبري لأسرة تعود أصولها إلى مدينة الخليل (جنوب الضفة الغربية) التي انتقلت إلى قطاع غزة مطلع القرن الماضي، ونشأ في حيّ الشجاعية شرق مدينة غزة
ولد الجعبري لأسرة تعود أصولها إلى مدينة الخليل (جنوب الضفة الغربية) التي انتقلت إلى قطاع غزة مطلع القرن الماضي، ونشأ في حيّ الشجاعية شرق مدينة غزة، واعتقل حينما كان يبلغ من العمر 18 عاماً بتهمة المشاركة في خلية مسلحة تابعة لحركة فتح ومقاومة الاحتلال، فكان على قائمة المطلوبين للتصفية من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي، باعتباره المسؤول الأوَّل عن كلِّ نشاط ضد الاحتلال.
كان يتمتع بشخصية قويّة، وصاحب فكر وثقافة واسعة وشاملة للإسلام وللقضية الفلسطينية، وكان يجيد اللغة العبرية بطلاقة، وصاحب علاقات كبيرة ووثيقة مع التنظيمات الفلسطينية المختلفة كافة، بما فيها حركة فتح التي انشق عنها.
من فتح إلى لحماس:
أصدرت محكمة إسرائيلية حكماً على الجعبري بالسجن ثلاثة عشر سنة، وداخل السجن احتك بشكل مباشر وعن قرب ببعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين، فلم تكن حركة حماس قد أسّست بعد، وكان من أبرز من تأثر بهم فكر الشيخ صلاح شحادة القائد العام لكتائب القسَّام، وتأثر بعدد من مؤسسي الحركة الأوائل، أبرزهم الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، والمهندس الشهيد إسماعيل أبو شنب، والدكتور الشهيد نزار الرّيان، والدكتور الشهيد إبراهيم المقادمة.
ساهمت كلّ هذه العوامل في تحول الجعبري إلى فكر الإخوان المسلمين، فقاد في زنزانته وستة من كواد حركة فتح تمرّداً على قيادة الحركة سعياً منه للانتقال إلى الحركة الإسلامية، وهو الأمر الذي كان محظوراً على الأسرى التحويل من تنظيم لآخر، لاسيّما وأنَّ تنظيم الحركة الإسلامية في السجون كان في بدايته، وكان فتيًا، رفضت حركة فتح بداية الأمر رفضاً قاطعاً انتقال الجعبري ورفاقه إلى الحركة الإسلامية، بينما أصرّ الجعبري على مطلبه، وقد رفع الأمر إلى قيادة الحركة في الخارج، والتي وافقت في النهاية أمام إصرار الجعبري ورفاقه على الانتقال.
تحوّل الجعبري داخل السجن للالتزام الديني، وانتمى لجماعة الإخوان المسلمين قبل تأسيس حركة حماس في عام 1987م،
تحوّل الجعبري داخل السجن للالتزام الديني، وانتمى لجماعة الإخوان المسلمين قبل تأسيس حركة حماس في عام 1987م، وكرَّس الجعبري وقته خلال اعتقاله في السجون المركزية في السنوات التسعة الأولى من اعتقاله للاطلاع وخدمة المعتقلين، وقاد معهم عدداً من الإضرابات، والتي انتزعوا فيها الكثير من الإنجازات، وكان في كثير من الأحيان يمثل الأسرى أمام إدارة السجن التي كانت تحترمه كثيراً وتهابه كذلك لمواقفه القويّة والحازمة.
وعمل الجعبري مع عددٍ من قادة الحركة الذين كانوا في هذا السجن؛ ومن بينهم الدكتور إبراهيم المقادمة على تجهيز عناصر حركة حماس للانضمام إلى الأجهزة المختلفة في الحركة بعد خروجهم من المعتقل، لا سيّما الجهاز العسكري الذي يحمل اسم كتائب الشهيد عز الدين كتائب القسَّام، وذلك من خلال دورات أمنية وعسكرية ودينية مكثفة تؤهل ذلك الشاب للانخراط في العمل التنظيمي فور خروجه من المعتقل.
بعد الإفراج..
كان من أبرز المواقف التي عكست صلابة شخصية الجعبري رفضه المساومة بحريته على خيار المقاومة.
ففي مطلع عام 1994م؛ قرَّرت سلطات الاحتلال الإفراج عن معتقلين فلسطينيين كبادرة حسن نيّة تجاه منظمة التحرير الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو، شريطة التعهد قبل الإفراج بعدم "ممارسة الإرهاب والمقاومة" والالتزام بالاتفاقيات، إلاَّ أنَّ الجعبري رفض التوقيع، وقال: "أمضيت في السجن 11 عاماً وسأكمل العامين الباقين ولا يقال لي يوماً: إنَّ اتفاقية أوسلو هي التي أخرجتك من المعتقل، وإنك وقعت على تعهد بعد ممارسة المقاومة، فلماذا نحن خلقنا واعتقلنا؟".
خرج الجعبري من المعتقل عام 1995م، وبعد عام تقريباً من خروجه تعرَّضت حركته لضربة قوية من قبل السلطة الفلسطينية التي اعتقلت المئات من عناصرها وأغلقت مؤسساتها وجمعياتها؛ حيث عمل جاهداً آنذاك على عودة الحياة للحركة من خلال تأسيسه لأول مكتب إعلامي للحركة في الداخل، والذي عرف آنذاك باسم "مكتب الميناء" كون موقعه كان بالقرب من ميناء غزة القديم، وكذلك تأسيس جمعية النور لرعاية الأسرى ومتابعته لملف الأسرى بالكامل ومشاركته في كافة فعاليات أهالي الأسرى.
قابلت السلطات هذا النشاط باعتقاله عام 1998م بتهمة التنسيق ما بين القيادة السياسية والعسكرية لحركة حماس، وذلك قبل اندلاع انتفاضة الأقصى في أواخر عام 2000م، حيث تسلم ملف الأسرى في حركة حماس.
تركز نشاط الجعبري عقب الإفراج عنه من سجون الاحتلال عام 1995، في إدارة مؤسسة تابعة لحركة حماس تهتم بشؤون الأسرى والمحرّرين، ثمَّ عمل في العام 1997 في حزب الخلاص الإسلامي الذي أسسته الحركة في تلك المرحلة لمواجهة الملاحقة الأمنية المحمومة لها من جانب السلطة آنذاك.
في تلك المرحلة توثقت علاقة الجعبري بالقائد العام لكتائب القسَّام محمد الضيف، والقائدين البارزين عدنان الغول وسعد العرابيد، ما دفع لاعتقاله في العام 1998 من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، التي اتهمته بلعب دور حلقة الاتصال بين القيادتين السياسية والعسكرية لحركة حماس.
محاولات الاغتيال..
تعرَّض الجعبري لمحاولات اغتيال صهيونية عدَّة، أبرزها تلك التي نجا منها بعد إصابته بجروح خفيفة في العام 2004م
تعرَّض الجعبري لمحاولات اغتيال صهيونية عدَّة، أبرزها تلك التي نجا منها بعد إصابته بجروح خفيفة في العام 2004م، بينما استشهد ابنه البكر محمد، وشقيقه وثلاثة من أقاربه، عندما استهدفت مروحيات حربية منزله في حيّ الشجاعية بعدة صواريخ، ولا يبدو أن الأمر سيقف عند هذا الحد وستبقى حياته مهدّدة بالاستهداف، بعدما أضاف الجعبري لسجله النّضالي إنجازاً جديداً في مواجهة الاحتلال بإدارته الناجحة لملف خطف وإخفاء شاليط ومبادلته بأسرى فلسطينيين كان من الصعب رؤيتهم خلف القضبان بدون صفقة تبادل.
وبعد هذه العملية اختفى الجعبري عن الأنظار تماماً لمدَّة عامٍ تقريباً، حيث ظهر بعد ذلك في إحدى الاعتصامات لأهالي الأسرى في مقر الصليب الأحمر بغزة، لكن بعيداً عن وسائل الإعلام.
ظل الجعبري بعيداً عن وسائل الإعلام، حيث ظهر في برنامج وثائقي واحد، وتحدَّث عن نفسه، وعن الجهاز العسكري لحركة حماس، إلاَّ أنَّه بعد ذلك لم يصدر عنه أيّ تصريح، وتوارى عن الأنظار بالكامل.
اختطاف شاليط
بدأ اسم الجعبري يلوح في الأفق بعد اختطاف الجندي الصهيوني "جلعاد شاليط" في 25 حزيران (يونيو) 2006م، وحمّله الصهاينة المسؤولية عن ذلك، فيما كثر الحديث عن كون الجعبري هو من كان يقود المفاوضات غير المباشرة حول شاليط بالإضافة إلى ثلاثة قادة آخرين، وكان يدرك طبيعة القائمة التي وضعها للأسرى التي من المقرّر أن يفرج عنهم وتنوّعها، بحيث تشمل الأسرى القدامى وكذلك قادة الفصائل والنساء والأطفال والمرضى، ولكل اسم في هذه القائمة معنى عند هذا الرجل.
وكان الكيان الصهيوني يدرك مدى صعوبة المفاوضات في قضية شاليط، لعلمها الجيّد بكبير المفاوضين الفلسطينيين في هذه الصفقة (الجعبري)، كونه أمضى في سجونها 13 عاماً، وكان عنيداً جداً في انتزاع حقوق الأسرى خلال المفاوضات مع إدارة السجون، حيث كان صعباً جداً في التفاوض على "ملعقة" يطلب دخولها للأسير وهو معتقل، ويرفض التنازل عنها، فما بالك حينما يتفاوض على حرية أسرى أمضوا سنوات في سجون الاحتلال، وبيده جنديٌّ صهيونيّ وهو خارج المعتقل، وتحت إمرته الآلاف من المقاتلين المدربين والمجهزين جيّداً.