الحج.. تجديد وجهاد وإعادة بناء

الرئيسية » بصائر تربوية » الحج.. تجديد وجهاد وإعادة بناء
alt

خلقت البشرية جميعها لعبادة الله وحده وهو الذي يجب أن تقربه العيون، وتخشع له القلوب وتعنو لقهره الوجوه، وتذل له الجباه، فنحن مخلقون لله، رضينا أم لم نرض، راجعون جميعاً إليه لا محالة، أطعنا أم لم نطع وصدق الله العظيم إذا يقول: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ سورة طه: آية 111. ويقول: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ سورة مريم: آية 93.

وفرض الله عزَّ وجل الحج على عباده جعله جهادًا للشيخ والمرأة والضعيف، وكلهم غير قادرين على تحمُّل أعباء الجهاد وتبعاته، بَيد أنَّ الحج جهاد لا شوكةَ فيه، ومن هنا يتمثل المؤمن في تجرده من المخيط والمحيط، ومن سائر ما يتعلق بهذا كله، من الزينة والمتاع، إنه يتجرد لله في تعبده وخضوعه لعظمته.

ثم بات المؤمن الحاج متقشفًا مخشوشنًا متمثلاً القول الحكيم "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم" وتلك معالم حياة الجندية، فالجندي لعقيدته وفكرته لا بد أن يستصحب الخشونة وشظف العيش في عزيمةٍ وقوة، متمثلاً سمت المجاهد الأكرم رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، إذ كان يمشي كأنه يتخطب من صبب (أي يهبط بقوة)، والحاج المجاهد حين يرحل يهرول إن تيسر له ذلك في الطواف وفي السعي بين الصفا والمروة يتذكَّر وصية رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- لجنود الله أصحابه الميامين، يطوفون بالبيت الحرام في عمرة القضاء "رحم الله امرأً أرى القوم اليوم قوةً من نفسه".

ثم إذا بالحاج يستلم الحجر الأسود أو يشير إليه إنما بذلك يجدِّد البيعة والعهد مع الله؛ إذ هو يعلم أنَّ العهدَ على بني آدم من قديم قد ألقمه الله هذا الحجر ليأتي شاهدًا على الناس يوم القيامة بمَن استلمه أو أشار إليه وهذا قول الحق: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)﴾ (الأعراف)، وعهد الله أن نحمده ولا نشرك به شيئًا، وهذا شعار الحاج منذ خروجه من بيته، قائلاً: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إنَّ الحمدَ والنعمة لك والملك لا شريك لك".

فهذا عهد حجاج بيت الله مع الله أن يقوموا على ذروة سنام هذا الدين، وهو الجهاد في سبيل الله، بعد أن تدربوا في هذا الميدان، ثم يمضي الحاج ساعيًا بين الصفا والمروة في
حركةٍ قويةٍ دؤوبة، مستجمعًا حديث النبي العدنان: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير".
فإذا ما أنهى الحاج إلى عرفات الله في التاسع من ذي الحجة كان المعسكر الرباني الكبير في صعيد واحد في يومٍ واحدٍ في وقتٍ وضراعةٍ ولجوءٍ واحد، يغيظون بهذا الموقف المهيب عدوَّ الله وعدوَّهم، إبليس اللعين عليه لعنة الله، ولا يُرى اللعين في نهاية هذا اليوم المبارك إلا مدحورًا مقهورًا ذليلاً صاغرًا؛ لما يرى من تجاوزِ الله الرحيم عن الذنوبِ العظام، وإذا بالحجيج المجاهدين نافرين جميعًا في حشدٍ ضخم متجهين إلى المسجد الحرام في زحف جهادي ضخم، يرى منه قوة الإسلام والمسلمين بعد أن باهى الله عز وجل بهم ملائكة السماء بقوله "عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا من كلِّ فجٍ عميقٍ يرجون رحمتي ويخافون عذابي أُشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم.. أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمَن شفعتم له".

رحلة سلام

إن بيت الله الحرام هو منطقة الأمن والأمان، منطقة السلام الحقيقي في العالم كله في زحمة الصراع بين بني البشر، إنها الكعبة بيت الله الحرام، والأشهر الحرم، تقدم في أتون المعارك المستعرة، والخصومات والصراعات بين المتزاحمين على تراب الأرض وطينها، المتزاحمين والمتفائلين على التفاهات والزعامات، والكل يريد الاستعلاء على الآخرين والقهر للآخرين والجميع تقتلهم المطامع والشهوات، تقدم هذه المنطقة المباركة السلام محل الحروب، والطمأنينة محل الخوف ويشعر المسلمون بالحب والإخاء والأمن والأمان قال الله تعالى: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (سورة
المائدة: آية 97).

"إن الله -عز وجل- أراد للكعبة – بيته الحرام – أن تكون قياماً للناس صلاحاً ومعاشاً، لقيام أمر دينهم ودنياهم، وأن تكوم ملاذ الأمن والسلام، تقيم الناس ويلوذون بها وتقيهم الضعف والخوف والفزع.

بين الهدى والضلال

الحج رحلة الفاصلة بين الهدى والضلال ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ﴾ سورة البقرة: آية 197. ومن هنا تحدد الاتجاه لمسيرة الإنسان، فالطريق القديم الحافل بالرفث والفسوق والجدال يجب أن يغلق وسحقاً لحياة الرفث والفسوق والجدال سحقاً للفحش كله، كما أنها بداية عهد وميثاق جديد مع مالك الملك الغني عن العالمين ميلاد جديد للمسلم، الشهادة بالتوحيد هي بداية الطريق، والاستجابة لله هي معالم الطريق.

تجديد وإعادة بناء

وفي الحج تجديد وإعادة بناء وتربية وتعليم، وتعويد على تحمل المشقات للأمة التائهة المفككة التي تجاهلت رسالتها، وفي الحج توحيد لها تحت راية الإسلام، وتذكير لها بهذا التوحيد، وهو أيضاً تعليم بأن الطريق إلى توحيدها وجمعها ليس غير طريق الله، طريق لبيك اللهم لبيك، إنه طريق الأمة الوسط، خير أمة أخرجت للناس، الأمة التي أكد الله عليها وألزمها بحمل رسالة الإسلام إلى الدنيا، بعزم وقوة ومضاء، لتقوم بدورها في هداية البشرية، وإنقاذ العالم، وتحرير الدنيا من العبادة لغير الله.
إنها مهمة التبليغ والدعوة والجهاد، حتى تصل رسالة الحق إلى كل بلد، وتدخل كل بيت، عن طريق الإقناع والدليل، ونصاعة البرهان.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

صنم الذات: كيف يهدم الرياء ما تبنيه يدك؟

من بين أكثر أمراض القلوب خفاءً وتأثيرًا، يبرز داء حب الظهور، ذاك الذي يجعل من …