كثيراً ما يغري السّلاح حامله، فيدفعه للتطاول على النَّاس، وقد يحدث هذا الأمر لبعض المجاهدين في سبيل الله في كلّ مكان، أو لأبناء الأجهزة الأمنية المختلفة، فيعتدوا على حقوق الناس.
وقد يحدث هذا نتيجة عدم تفقه حامل السّلاح المسلم في دينه، وضعف ثقافته الشرعية وضحالتها، أو نتيجة فهمه الخاطئ، وغلوه وتشدّده وتكفيره للنَّاس، والنظر إليهم على أنَّهم كفار أو فاسقون يستحقون العقاب.
فما هي خطورة تغوّل حملة السّلاح على المواطنين؟ وأين دور التربية داخل الحركات والأحزاب؟ وماذا عن مبدأ العقاب لــ" ابن الحركة"؟ وكيف يمكن معالجة قضية فتنة السلاح داخل القوى والفصائل المجاهدة، وكذا داخل الأجهزة الشرطية والأمنية ؟
هذه الأسئلة وغيرها يجيب عليها رئيس دائرة الإفتاء في رابطة علماء فلسطين، وأستاذ الشريعة بالجامعة الإسلامية في غزّة الدكتور يونس الأسطل خلال الحوار التالي:
بداية، ما هي أبرز الأسباب التي قد تدفع المجاهدين وأبناء الأجهزة الأمنية للوقوع في "فتنة السلاح" ؟
إنَّ الجبلّة التي طبع عليها بعض الشباب، من أثر الوراثة أو التأثر بالواقع، وهو الثورة لأتفه الأسباب، وتغليب العصبية والقبلية والقرابة على الأخوة في الدين والوطن تعتبر جاهلية قديمة منتنة، حيث كانوا ينصرون أخاهم ظالماً أو مظلوما دون البحث في الأسباب الداعية إلى استنفارهم نصرة لقريبهم.
بالإضافة إلى الحاجة والفقر التي تدفع بعض الشباب بالتغول على الحقوق لأدنى شبهة، إذ يقال: إنَّ الإفلاس يدفع الرجل للبحث في الدفاتر العتيقة، أي حقوق الميراث الضائعة قبل عشرات السنين والتي كانت للآباء أو الأجداد.
ما هي خطورة تغوّل المجاهدين والمتدينين من أبناء الشرطة على المواطنين نتيجة وقوعهم في" فتنة السلاح"؟
تترتب عليه مخاطر كثيرة أبرزها، فساد ذات البين حينما يرى أناس مستضعفون أنَّ حاملي السلاح يستطيعون أن ينتزعوا منهم ما شاءوا بالقوَّة ممّا يورث كراهية وأحقاداً وتحفزاً للانتقام والثأر، وهو الذي أخبر عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأنّه الحالقة التي لا تحلق الشعر فقط، إنّما تحلق الدين.
كما تؤدّي إلى انتشار أكل أموال الناس بالباطل، والتعدي على حرماتهم اغترارا بالقوة، والمعروف أنَّ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم حرام عليهم كحرمة يوم عرفة في شهر ذي الحجة في البلد الحرام، كما جاء في خطبة حجة الوداع، أي أنّها حرمة مركبة أضعافاً مضاعفة من حيث الإثم والعقاب ((ألا أنَّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة شهركم هذا في يومكم هذا في بلدكم هذا)).
ومن شعر بالاستضعاف قد يلجأ إلى التقوّي بالعدو فيرتمي تحت أقدامه ويقبل بالتعاون معه، وهذا قد يفتح المجال للسقوط الأمني والجاسوسية.
كما أنَّ غياب القانون والعودة للفلتان الذي اكتوينا بناره في الحقبة الماضية، لدرجة أن صار القتل على اللحية أو نغمة الجوال أو غيرها من مظاهر التدين، بالإضافة إلى التغوّل على الأموال والتطاول على الأعراض، وهو ما جعل حياتنا نكدة وضنكاً، لولا أن منَّ الله علينا في تحكيم الفلتان إلى حدٍّ بعيد.
ما هو دور التربية داخل الحركات والأحزاب للحدّ من هذه الظاهرة؟
يجب على المربين أن يغرسوا في الناشئة وفيمن تحت أيديهم مفاهيم تربوية، تمنع من التغوّل على النّاس في السّلاح، وإذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فاعلم أنَّ الله اقدر منك وهو يمهل ولا يهمل، وإذا جاء بطشه فلا مرد له.
ومن الواجب أن نكون على قلب رجل واحد، لأنَّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنَّهم بنيان مرصوص، والواجب أن نتحاشى الخصام بتاتاً؛ بأن ننهي خلافاتنا بالعفو والصفح والتسامح أو بالمصالحة على بعض الحقوق واكتفائنا بشطرها، وفي أسوء الأحوال التقاضي بخفض الجناح واللين للمؤمنين.
ومن المعروف أنَّ الحقوق لا تضيع أبداً، فإمّا أن تعطى في الدنيا فيأتي المرء آمناً يوم القيامة، وإمَّا أن تؤخذ في الآخرة من الحسنات، فإذا أفنيت حسنات الظلمة اخذ من سيئات المظلومين فطرحت عليهم فاستوجبوا الخلود في النار، لأنَّه لم يبق لهم حسنة تنقذهم، كما أنَّ الحقوق لا تسقط بالتقادم في الدنيا.
والقوي لا يظل قويّاً، والضعيف لا يستمر ضعفه إلى الأبد، فالشاب يشيخ والطفل يشب، وبناء عليه، فإنَّ الذي يغتر اليوم بالقوَّة سيأتي عليه يوم يكون المستضعفون أقوى منه وبإمكانهم أن يقتصوا منه، فلا يغترن بيومه ولينظر في المستقبل فإنَّه مهما كان بعيداً فهو قريب.
بالإضافة إلى عموم ما تتضمنه عقيدتنا الإسلامية وفكرنا السَّامي وأعرافنا الطيّبة من ضرورة أن نؤثر على أنفسنا ولو كان بنا خصاصة، وأن نحب للآخرين ما نحبّه لأنفسنا في أضعف الإيمان وأن نتعالى على السفاسف والتوافه لنهتم بقضايانا الكبرى؛ كإعلاء هذا الدين على الدين كله أو تحرير أسرانا ومسرانا ووطننا وشعبنا من وطأة الاحتلال والتآمر العالمي.
وهذا يوجب أن نكون يداً واحدة، وعلى قلب رجل واحد، ونرمي عن قوس واحدة، وإلاَّ فإن سنن الله لا تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، وقد قال فيها: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، وما أشبه ذلك بركاب سفينة إذا خرقها أحدهم والبقية يتفرجون هلك الجميع.
ما خطورة عدم إيقاع العقاب بمن يعتدي على المواطنين ؟
إنَّ كثيرا من التصرفات الخاطئة التي تصدر من حملة السّلاح أو من المتطاولين امتداداً إلى قوّة الفصيل الذي يؤويه يلقى جزاؤه دون الإعلان عن ذلك، وقد يؤدّي هذا إلى مصادرة سلاحه أو إلى فصله بالكلية.
وأمَّا حقوق الناس فسبيلها القانون والمحاكم، غير أنَّ القانون يحتال عليه ببعض المحامين الذين لا يرجون لله وقاراً، أو في بعض القضاة لضعف في نفوسهم، أو في أهليتهم، كما أنَّ الذين مرضوا على الاعتقال لا تخيفهم عقوبة السجن أصلاً، فقد تعوّدوا عليه مرات عديدة، وربما مكثوا في السجن بضع سنين.
ومن هنا يظهر بعض ما نشكوه من عدم تأثير العقوبات القانونية في بعض الشباب، وربما يكون سبب ذلك تدخلات من هنا وهناك بسبب أننا لازلنا نتحول من نظام العشائر والقبائل إلى القانون، ولا زلنا في البرزخ بين المرحلتين، لذلك فإنَّ بعض القضاة أو القائمين على السجن أو النيابة يتأثرون بالوساطات الكثيرة التي تأتي من قادة الحركات أو الوجهاء أو غيرهم، فيدفعون عن أنفسهم الحرج وإضاعة الوقت في استقبال الوفود الشافعة أو كثرة الاتصالات بإطلاق سراح المعتدين.
ونأمل أن نصل إلى اليوم الذي يكون فيه القانون هو الحكم في قضايانا دون تأثر بالموروثات العشائرية وغيرها.
حينما يكون الشرطي داعية أو متديناً أو محسوباً على الحركات الإسلامية ما هي محدّدات عمله كونه ممثلا للنهج الإسلامي ؟
لا شك أنَّ الشرطي في مواقعه المختلفة الذي هو على احتكاك بالجمهور يمثل وجه المشروع السياسي للحركة الإسلامية، والنَّاس تحكم على الدّعوة الإسلامية من خلال سلوكه، وبناءً عليه فيجب على الشرطي أن يتحلّى بأخلاق الإسلام وآدابه في التعامل مع الناس.
وقد قال الله لنبيّه (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) فهذا هو الأصل، لكن إذا لم يفلح اللين والرَّحمة مع أصناف من الناس، فلا بد من القسوة ليزدجروا، فإنَّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وقال الشاعر :
فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً.. فليقسوا أحياناً على من يرحمُ
وقال الله تعالى على لسان ذي القرنين : ( أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاءا الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا)، وإن هاتين الآيتين تمثلان العمود الفقري للسياسة الشرعية في معاملة الرّاعي للرعية.
ما هو التأصيل الشرعي لقضية فتنة السلاح؟
إنَّ التأصيل الشرعي لتطويق فتنة السلاح، هو الوجوب، وأدل أدلته في قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)، وقد دل قوله (فقاتلوا التي تبغي) على وجوب إنهاء الفتنة، ولو بتجريد السلاح، وتجييش الجيوش في مواجهة المغترين بقوتهم.
وأضاف، وقوله عليه الصَّلاة والسّلام : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوماً ) ثمَّ فسّر نصرة الظالم بمنعه عن ظلمه، لأنّها نصرة له في الآخرة والدنيا، أمّا الآخرة فلئلا يتعرّض لعذاب جهنم، وأمَّا الدنيا فلئلا يتعرّض لسنن الله في تعجيل العقوبات، ومنها إقدار المعتدى عليه بأن يقتص منه سواء كان ذلك بالقانون أو بغيره.
وقال سبحانه: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا)، والأصل بالسلطان نصرة المظلوم بمنع الظالم من التغوّل عليه أو بانتزاع ما أخذه منه بالتغوّل وردّه إلى أصحابه.
كيف يمكن معالجة قضية فتنة السلاح داخل الفصائل المجاهدة ؟
إنَّ معرفة أسباب المرض هي الطريق إلى العلاج، والأسباب تتلخص في ضعف العلم أو ضعف الوازع الديني، فالوقاية في حسن التربية والتعبئة والتوعية، وأمَّا العلاج في تأديب المتجاوزين الحد بما يضمن عدم عودتهم، وتشريد من ورائهم، لتكون عقوبته نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين.
هل يجوز للشرطي ضرب المواطن بأي حال من الأحوال؟ ومتى؟
إنَّ الضرب عقوبة تعزيرية، لا يناقش أحد في مشروعيتها، إنَّما الخلاف في مواطنها وحجمها وهذا يلزمه ثبوت التهمة أصلاً، وقيام الدليل على مشروعية الضرب فيها، أو أن يكون اجتهاد القاضي أو المسؤول.
وإنَّ الضرب هو أفضل أنواع التعزير، وهذا يكون في حق "السفلة" و"الفسقة" و"أصحاب السوابق" أكثر منه في "مستوري الحال" أو من ثبتت عليهم التهم في المرّة الأولى، إذ الأصل إقالة ذوي الهيئات عثراتهم إلاَّ الحدود، وذوي الهيئات هم الذين لا يعرفون بصدق، وقد وقع منهم ذلك للمرة الأولى كما هو الظاهر.
وفي كلّ الأحوال ينبغي الالتزام بشروط الضرب؛ وهو أن يكون بسوط متوسط فلا يكون قاسياً فيكسر، ولا ليّنا فلا يؤدّب، وأن يفرّق على سائر الجسد، وبالأخص الظهر والإليتين والقدمين، وأن يتقي فيه الوجه بالكامل، وكذا المقاتل كالرأس ومنطقة الصدر لأنَّها تحوي القلب والرئتين والأجهزة الداخلية والبطن، وأن لا يزيد الضرب عن أدنى الحدود وهم أربعون جلدة، فينبغي أن يكون دون ذلك حتى في أسوء الاحتمالات.
ما هو رأي الشرع بالتعذيب من قبل الشرطة أثناء التحقيق؟ وما هي أحكامه؟
إنَّ الأصل عدم اللجوء إلى الضّرب أثناء التحقيق إلاَّ عند الضرورة القصوى، بأن تكون التهمة قوية، وتكون آثارها على المجتمع كبيرة، وأن يرفض المتهم التعاطي مع أساليب التحقيق الأخرى، والأفضل للمحقق أن يستعمل ذكاءه ودهاءه وحيله في إيقاع المتهم لحمله على الإقرار، وكذا وسائل التكنولوجيا الحديثة التي يتوصل بها إلى إثبات التهم كالبصمات وغيرها، ولا بد أن نفرّق في التهم بين مستور الحال، أو صاحب السوابق، فالأوّل الذي قامت حوله شبهة قوية وهو الذي لم يجرّب عليه جريمة من قبل، فلا ينبغي اللجوء إلى ضربه، ويمكن إطالة حبسه، أمَّا أصحاب السَّوابق والمشهورون بالفجور، فهؤلاء لا بأس بضربهم بالشروط المذكورة آنفا.
كونك عضو رابطة علماء فلسطين، هل من أنشطة قمتم بها من أجل توعية أبناء الحركات الإسلامية والأجهزة الأمنية؟
نعم، فرابطة علماء فلسطين أصدرت كتاب "زاد الأمين" وقامت بتوزيعه على أبناء الأجهزة الأمنية في قطاع غزة، والذي تمَّ طباعة 3000نسخة منه، ويحتوي على توجيهات دينية وأخلاقية إلى رجال الأمن والشرطة الفلسطينية، من أجل صقل معارف وقدرات تلك الفئة المستأمنة على أرواح المواطنين.
كما تستعد الرابطة لتوزيع كتيب "حكم التعذيب بالشبهات لانتزاع الاعترافات وأحكام أخرى".
هل من كلمة أخيرة توجّهها للشباب المجاهدين ولكلّ حملة السلاح من المسلمين؟
"نحن دعاة لا قضاة ولا جباة ولا بغاة، وبناء عليه فالهم الدَّعوي وتأليف قلوب الناس ونشر الدين يجب أن يسيطر على تفكيرنا، ويحكم تصرفاتنا، وإلاَّ فإنَّ المخالفين يحملون إثماً كبيراً، هو إثم تأخير انتصار الدَّعوة واعتناق جميع النَّاس لمنهجها بحسب سلوك بعض أفرادها.
وإنَّ بعض الشباب الملتزم بأجنحة المقاومة العسكرية تجد منهم تصرفات توحي بغرور القوة، بما يتعلق بالخصومات الداخلية، فالأصل أن يظل السلاح موجهاً للعدو الصهيوني، وأن يكون حلّ خلافاتنا بالصلح دون تطاول أحد الفريقين على الآخر، وذلك لأن المؤمنين أخوة كالجسد الواحد، رحماء بينهم، لأنَّ الله قال في القتل: (فمن عفي له من أخيه شيء من فإتباع بمعروف أو أداء إليه بإحسان). وقال في البغي : (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم).