لم يكن شيخاً عادياً، يعظُ الناس ثمَّ يذهب إلى حال سبيله لا يبالي بحال الأمَّة وما تواجهه من احتلال وتحديات. ولم يكن عالماً يقضي وقته في الكتابة والتأليف، دون أن يكون له دورٌ في توجيه الأمة، وأداء رسالة العلماء الحقيقية المطلوبة منه.
بل كان يجمع بين العلم والدعوة، والجهاد والترغيب فيه، فكان نجماً في سماء فلسطين على مدار السنين والأيام، لا يعرف الغياب ولا الأفول، ولا التيه ولا الضياع.
إنَّه بوصلةٌ لكلِّ مجاهد يقاوم الاحتلال، ومثالٌ لكلِّ صامدٍ على ثوابت القضية وأركانها، وقدوة لكلِّ من أراد أن ينال أجر الشهادة، وزادٌ لكل عالم يريد أن يكون ربانياً قائداً لأمته وفق نصوصها وروحها وفلسفتها، وزعيماً للعلماء المعاصرين الذين فهموا الإسلام بمفهومه الشامل، فلم يجعلوه خاصاً على أحكام العبادات، دون غيرها، فالإسلام عنده شامل يدخل في العبادات والمعاملات والسياسة وغيرها، وليس كالإسلام الذي يروج له فقهاء السلطة وأذناب المحتلين.
الإسلام عند القسام هو إسلام شامل، يدخل في العبادات والمعاملات والسياسة وغيرها، وليس كالإسلام الذي يروج له فقهاء السلطة وأذناب المحتلين.
مولده ونشأته
ولد الشيخ الشهيد عزّ الدّين القسَّام في بلدة جبلة السورية، في محافظة اللاذقية، عام 1882. ونشأ في أسرة محبّة للعلم والفقه، وتلقى تعليمه في البداية فيها، ثم انتقل إلى مصر في شبابه ومكث فيها ما يقارب عشر سنوات، ينهل العلم من شيوخ الأزهر كالشيخ محمد عبده والشيخ محمَّد رشيد رضا وغيرهم من العلماء. ثمَّ عاد إلى بلدته "جبلة" بعد أن أنهى تعليمه في الأزهر الشريف، ليقوم بدور الخطيب والواعظ والمدرس في بلدته التي نشأ وتربى فيها.
مع الثورة السورية
حينما دخلت فرنسا سوريا بعد سقوط الخلافة العثمانية، لاحتلالها وفرض الاستعمار عليها، تحرّك القسَّام، كغيره من الأحرار والذين يرفضون الظلم والضيم والاستكانة للمحتل وأعوانه. فانتقل إلى مدينة (الحفة) وكان يعطي دروساً تحريضية للثورة على المحتل، وحينما نادى منادي الجهاد، كان القسَّام من أوائل من لبّوا النداء، و شارك القسَّام في ثورة السوريين في جبال صهيون مع القائد عمر البيطار ومن معه من المجاهدين، منطلقاً من تعاليم الدين التي تدعو للجهاد ضد كلّ محتل يغتصب الأرض ويدنسها، ويستبيح الحرمات والدماء.
رفض الشيخ القسام محاولة إغراء السلطات الفرنسية له بالمال وتولي منصب القضاء، واستمر في معاونة المجاهدين في الثورة ومشاركتهم، حتى أصدرت فرنسا حكماً غيابياً بالإعدام عليه.
حاولت فرنسا أن تغري الشيخ القسَّام، فحاولت شراءه بالمال، وعرضت عليه منصب القضاء كما فعلت مع غيره، حتى يكون من مشايخ المستعمر، فيترك الجهاد، ويبرر للاحتلال وجوده، ويقتل روح الثورة والمقاومة ضد المحتل الغاشم. إلاَّ أنَّ القسَّام، رفض ذلك، واستمر في معاونة المجاهدين في الثورة ومشاركتهم، حتى أصدرت فرنسا حكماً غيابياً بالإعدام على الشيخ القسَّام، مما أجبره للذهاب إلى فلسطين والعيش فيها، حتى لا يتم القبض عليه.
توعية وتحريض
استقر الشيخ القسَّام بعد ذهابه إلى فلسطين في مدينة حيفا الساحلية ذات الموقع التجاري والثقافي والجغرافي المهم، ولم ينس أن مهمة العالم المجاهد ليست محصورة في بلد دون آخر، خصوصاً إذا كانت هذه البلد "فلسطين" تحوي الأقصى الشريف، وفيها قبور كثير من الأنبياء والصحابة والصالحين.
كانت فلسطين آنذاك ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني، وكانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين تزداد يوماً بعد يوم، مما أوجب على القسَّام أن يقوم بدوره في توعية الناس بهذا الأمر، وحشد الطاقات لمنع الهجرة وطرد الإنجليز واليهود من فلسطين المباركة، فهو يرى أن جهاده في فلسطين استكمال لجهاده في سوريا، فالعدو واحد وإن اختلفت تسميته وشعاراته.
لذا استغل الشيخ القسَّام مسجده "الاستقلال" كأحد منابر التوعية في هذا الأمر، وزاد صلته بالناس هناك، وصار يعلمهم، ليلاً ونهاراً، ممَّا زاد من شعبيته، وتأثيره عليهم.
ثمَّ انتقل الشيخ القسَّام للدَّعوة في جميع مساجد شمال فلسطين، وذاع صيته بين الناس، وترأس جمعية الشبَّان المسلمين، ممَّا جعل الكثير من الناس يتعرَّفون عليه، ويسمعون لكلامه ويتأثرون به.
قال عنه أحد المصلين الذين لازموه وسمعوا له:" .. وأحسب أنَّه العالم الدّيني الوحيد في هذه البلاد الذي كان إذا صعد المنبر وخطب المسلمين في أيام الجمعة، يغرس في قلوب سامعيه حب الوطن، والإيمان بالحق، والجهاد في سبيل الله. فقد كانت خطبته كلها مزيجاً من الدعوة الصريحة إلى الانتفاض على الظلم، والتفاني في التضحية، والتدليل على أنَّ المسلم غير مكلف بالخضوع لسلطان غير مسلم أو أجنبي عن أمته .."
كان القسام يرفض محاورة المحتل –الإنجليز- بأيّ صورة كانت، وكان يرى بوجوب مقاومتهم والتصدي لتهويدهم للأرض المقدسة، وكان يؤمن بضرورة تحرير الأرض من المحتل وتقديمها على أيّ من نوافل العبادة.
كان رحمه الله يرفض محاورة المحتل –الإنجليز- بأيّ صورة كانت، وكان يرى بوجوب مقاومتهم والتصدي لتهويدهم للأرض المقدسة، وكان يؤمن بضرورة تحرير الأرض من المحتل وتقديمها على أيّ من نوافل العبادة. فهو كان يحرم الإسراف في زخرفة المساجد، في ظل ما يقوم به المحتل من مصادرة للأراضي وإعطائها لليهود، وكان يوجب شراء السلاح لمحاربة الإنجليز واليهود معاً، ويخاطب الناس بأنه من كان مؤمنا حقاً، فلا يجلسن دون سلاح أو جهاد. وذات مرة وفي إحدى خطبه، سأل المصلين، (هل أنتم مؤمنون؟) ثم أجاب: (لا أعتقد). وقال للناس: ( لأنكم لو كنتم مؤمنين لكانت عندكم عزة المؤمن، فإذا خرجتم من هذا المسجد وناداكم جندي بريطاني فستهرولون نحوه).
تنظيم الثورة
لم يقتصر القسَّام على الكلام والدَّعوة والتحريض فحسب، بل اعتمد على تكوين تنظيم سرّي؛ حيث بدأ الإعداد له عام 1925، ومارست عملياتها الجهادية بعد عام 1930.
وكان القسَّام يعتمد في تنظيمه للأفراد على اختيار من يتوسم به الخير من رواد المسجد، ثم يعرض عليه المشاركة في الجهاد لإنقاذ فلسطين، وكان لديه مجموعات تضم كل منها 9 أفراد، ويشرف على كلّ منها نقيب يتولى القيادة، ويدفع كل عضو منهم مبلغاً مالياً شهرياً.
ثمَّ قسَّم الشيخ المجاهدين إلى خمس وحدات عسكرية؛ وهي: وحدة شراء السلاح، ووحدة التدريب العسكري، ووحدة التجسس على اليهود والإنجليز، ووحدة الدّعاية للثورة في المساجد والمجتمعات، ووحدة الاتصالات السياسية.
ثمَّ بدأ القسَّام يستهدف المستوطنات وقادة الاحتلال، في الليل والنهار، حيث كانت حركته أوّل حركة تعتمد المواجهة المسلحة الجريئة مع الاحتلال.
استشهاده
كانت السلطات الإنجليزية منزعجة جدّاً من تصرفات الشيخ القسَّام، وحينما علمت أنَّ القسَّام ومن معه قاموا بضربات عسكرية موجعة، قررت أن تقتله، ظنا منها أنه سيوقف مسيرة المقاومة ضد الاحتلال والاستعمار.
وفي تشرين الثاني من العام 1935، قامت القوات الإنجليزية بمحاصرة الشيخ القسَّام ومن معه في أحراش يعبد، وقطعت عنهم وسائل الاتصال، والإمداد، وطلبت منهم الاستسلام.
إلاَّ أنَّ القسَّام ومن معه من المجاهدين أصحاب الأعداد القليلة والهمم العالية، رفضوا الاستسلام، مفضلين الموت ونيل الشهادة، على الوقوع في أسر العدو والاستسلام له.
ودارت معركة غير متكافئة بين القسَّام ومن معه، والمحتل وجنوده، حيث كان جيش المحتل يفوق عدد من مع القسَّام بمرات عديدة. وبعد ساعات من القتال المتواصل، استشهد القسَّام وبعض من معه، ووقع الباقون في الأسر بعد أن استخدم المحتل كل أنواع القوة والأسلحة، ضد هذه الفئة المؤمنة.
ملهم الثورة
صحيح أنَّ جسد القسَّام قد فارق الحياة، إلاَّ أنَّ روحه حيَّة في أبناء الشعب الفلسطيني، فقد كان استشهاده وقوداً لعدد من الثورات العظيمة ضد الإنجليز واليهود، حتى صار اسم القسَّام أنشودة عزّ، ورمز مقاومة وتحرّر.
وفي وقتنا الحالي، صار اسم القسَّام بحد ذاته مرعباً لليهود ومن عاونهم، حينما أطلقت حركة المقاومة الإسلامية – حماس، اسمه على جناحها العسكري، الذي ما زال يذيق اليهود صنوفاً من ألوان العذاب، ليسير نحو تلك الخطى التي رسمها القسَّام، وهي مقاومة المحتل والتحرَّر من ليل الاستعمار وظلمته، والجهاد حتى تتحرَّر الأرض والمقدَّسات، من دنس الصَّهاينة الغاصبين.