يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ في محكم التَّنزيل ": ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)﴾. ( سورة : التَّوبة).
في حقيقة الأمر، فقد كثُرَتْ الأدبيَّات التي تتناول قضيَّة الجهاد كفريضةٍ في الإسلام، وتتباين الآراء التي تتناول هذه القضيَّة، بحيث بات الجهاد أحد أبرز علامات التَّقييم عند الحديث عن الحركة الإسلاميَّة في تاريخنا المعاصِر، مع وجود الكثير من الانحرافات على مستوى الفكر والتطبيق لدى بعض الحركات المنضوية في هذا الإطار.
ولذلك، فقد بات من المهمِّ من آنٍ لآخر التَّذكير بالحقائق الفقهيَّة المُجرَّدة المُتعلِّقة بالجهاد في الإسلام، وتبيان بعض التداخلات التي تحدث من جانب بعض مفكري العلمانيَّة ودعاة "السَّلام العالميِّ" في عصرنا الحالي حول واحدةٍ من أجلِّ مِنَحِ اللهِ سُبحانه وتعالى للمسلمين لنيل شرف خدمة اللهِ عزَّ وجلَّ ودعوته، وحماية الدِّين والمُقدَّسات والأوطان.
ويعدُّ مُصطلح "الجهاد" أحد أكثر المُصطلحات ارتباطًا بالقضيَّة الفلسطينيَّة والصِّراع العربيِّ الإسلاميِّ- الصُّهيونيِّ، والذي اصطلح إعلاميًّا وسياسيًّا على تسميته بالصِّراع العربيِّ الإسرائيليُّ، في فلسطين وحولها؛ حيث "الجهاد" هو السَّبيل أو الخيار الرَّئيسيُّ الذي تعتمده القوى الإسلاميَّة في فلسطين وخارجها في مُواجهة اليهود، وسعيًا لإخراجهم من فلسطين واستعادة الأرض المُقدَّسة التي استولى عليها في فلسطين وخصوصًا القدس الشَّريف.
تستند المقاومة الإسلاميَّة في الجهاد ضد اليهود إلى مجموعةٍ مِن الأصول التي جاءت في الشَّريعة الإسلاميَّة،
ويستند المُسلمون وقُوى المقاومة الإسلاميَّة في إعلان راية الجهاد في مواجهة اليهود استنادًا إلى مجموعةٍ مِن الأصول التي جاءت في الشَّريعة الإسلاميَّة، والتي تُحرِّم أي صُورةٍ من صُور التَّعامُل السِّلميِّ السِّياسيِّ أو غير السياسيِّ مع أعداء الإسلام ممَّن يحتلُّون أرض المسلمين أو يُظاهرون على إخراج المسلمين من ديارهم أو مُحاربتهم في دينهم.
في الاشتقاق والاصطلاح
الجهاد في اللغة اسمٌ أو مصدرٌ لأصلٍ ثلاثيٍّ هو "جَهَدَ"، وفي "لسان العرب"؛ فإنَّ "الجُهْدُ" يعني الطَّاقة، فتقول: أجْهَد جَهْدَك؛ وقيل: الجَهْد هو المشَّقَّة، وفي "لسان العرب" أيضًا؛ فإنَّ "الجَهْدَ" هو تحميل الشيء أكثر مِن طاقته، فيُقال جَهَدَ دابته جَهْدًا وأَجْهَدَها؛ أي بلغ جَهْدها وحمل عليها في السَّيْر فوق طاقتها، وقال اللهُ تعالى في أكثر من موضعٍ من كتابه العزيز ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾، أي: بالغوا في اليمين، أمَّا الجهاد في الاصطلاح فهو بذل الجهد في قتال الكفار.
وفي الاصطلاح؛ فإنَّ الجهاد في سبيل اللهِ، يعني بشكلٍ مُباشرٍ بَذل الجَهد في قتال الكُفَّار، أو القتال في سبيل اللهِ، ويعني أيضًا لدى البعض من العلماء، ومِن بينهم الدُّكتور يوسف القرضاوي والدُّكتور سلمان بن فهد العَودة، بذل النَّفْس والمال والجَهْد بمختلف صُوَرِه، في سبيل اللهِ تعالى، بما يشمله ذلك من جهدٍ تربويٍّ ودعويٍّ وأنشطةٍ تنويريَّةٍ وإعلاميَّةٍ، وفي جمع المال، مِن أجل هدفٍ دينيٍّ، أي أنَّ الجهاد بشكلٍ عامٍّ كمُصطلحٍ إسلاميٍّ، يعني جميع الأفعال أو الأقوال التي تتمُّ لصدِّ عدوٍّ ما أو لتحرير أرضٍ ما أو لمُساعدة أحدٍ ما في سبيل اللهِ تعالى.
وفي الإطار؛ فإنَّ هناك أنواعاً أخرى مختلفةٌ من الجهاد، مِن بينها حمل النَّفس على الالتزام بتعاليم الله عزَّ وجلَّ والأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر وإرشاد الكُفَّار إلى الحقِّ بالقول والفعل، والجهاد، بذلك، يشملُ صُورًا مُتعدِّدَةً، من بينها بذل النَّفس والمال، كما يرتبط الجهاد أيضًا بعددٍ من المُصطلحات ذات الصِّلة، من بينها الحرب والقتال والحراسة والكفاح والرِّباط والمقاومة.
والجهاد فريضةٌ على المسلمين، وله أكثر من حالةٍ، الأولى أنْ يكون فرض كفاية، أي لو قام به بعض المسلمين سقط التَّكليف عن الباقين، أمَّا الحالة الثَّانية فيكون فيها الجهاد فرض عينٍ على كلِّ مسلمٍ، كما في حالة النَّفير العام عند حدوث غزوٍ لبلاد المسلمين.
وظَهَرَ هذا المصطلح أوَّل ما ظهر في الصَّدر الأوَّل للإسلام، عندما خاض النبيُّ الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" والصَّحابة الأوائل غزوة بدرٍ الكبرى ضد كُفَّار ومُشركي مكَّة المُكرَّمة، ثُمَّ تمَّ تعميم المُصطلح ليشمل أيَّ فعلٍ أو قولٍ يصبُّ في مصلحة الإسلام، لصدِّ عدوٍ ما يستهدف الإسلام فعلاً أو قولاً.
وللجهاد في الإسلام فلسفةٌ عميقةٌ أبعد من هذه الجوانب القريبة كبواعث للجهاد، فالإسلام ورسالة النَّبيِّ الكريم مُحَمَّدٍ "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" هي للنَّاس كافَّة، وهو ما جعل لزامًا على الرَّسول "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" والمسلمين من بعده السَّعي لرفع الظُّلم وإقامة العدل بين النَّاس، باعتبار أنَّ ذلك مِن صُلب أهداف وغايات هذا الدِّين.
أوجب اللهُ تعالى على المسلمين مُواجهة الُّظلم والظَّالمين في كلِّ مكانٍ، وإيصال رسالة الإسلام الحنيف إلى النَّاس في الأماكن التي يمنعُ الطُّغاة رسالة الرَّحمة من الوصول إليها،
وبالتَّالي، فقد أوجب اللهُ تعالى على المسلمين مُواجهة الُّظلم والظَّالمين في كلِّ مكانٍ، وإيصال رسالة الإسلام الحنيف إلى النَّاس في الأماكن التي يمنعُ الطُّغاة رسالة الرَّحمة من الوصول إليها، ولذلك كان فرض الجهاد على المسلمين لتحقيق هذه المقاصد السَّامية من مقاصد الدِّين الإسلاميِّ.
وفي هذا الإطار، ثَمَّة قضيَّةٌ شديدة الأهمِّيَّة في هذا الجانب، توضِّح بعض جوانب سماحة الدِّين الحنيف؛ حيث الجهادُ على مَن حارب الإسلام، وضد الظُّلم والطُّغيان، ولكن لا يهم أنْ يدخل النَّاس في دين الإسلام، ولكن المهم أنْ ينعموا بالعدل والأمن والأمان تحت حُكمِه.
فالأصل في فقه الدَّعوة الإسلاميَّة هو تبليغ دين الله تعالى للنَّاس بالحكمة والموعظة الحسنة.. قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)﴾ [سُورة النَّحل]، وتعريفهم كذلك بقيمه ورسالته العالمية الخالدة دون حربٍ أو اعتداءٍ؛ حيث ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [سُورة البقرة- مِن الآية 256].
ولكن حين يُمنع المسلمون قهرًا مِن القيام بواجب التَّعريف بدينهم وبرسالته العالميَّة الإنسانيَّة، أو يتعرَّضون للاعتداء في ديارهم وإعلان حالة الحرب عليهم؛ فقد وَجَبَ عليهم الجهاد في صورته المُباشِرة، وهو القتال، فاللهُ تعالى يقول: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [سُورة البقرة- مِن الآية 194].