الجهاد ضد الظلم والفساد..رؤية شرعية وسياسية ( 1-2 )

الرئيسية » بصائر الفكر » الجهاد ضد الظلم والفساد..رؤية شرعية وسياسية ( 1-2 )
alt

أثارت الثورات الشعبية التي اندلعت في غير دولة عربية العديد من الإشكاليات والقضايا السياسية والاجتماعية، وأخرى ذات طابع معرفي، ومن بينها مجموعة من القضايا ذات الطابع الفقهي، وخصوصا تلك المُتعلقة بالتوصيف الشرعي لبعض المُمارسات التي قامت بها الجماهير من الشباب وغيرهم، سواء قبل خروج مظاهرات الغضب العارمة، أو بعد خروج هذه المظاهرات.

 

وتتمحور هذه الممارسات حول قضية الكفاح أو الاحتجاج ذي الطابع السلمي ضد الفساد والمُفسدين، وموضعها من فريضة الجهاد في الإسلام، وارتباط ذلك بقضية شديدة الأهمية، وهي قضية الجهاد في الداخل، بحسب التعبير الذي أطلقه عليها الدكتور يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وموقف عموم المواطنين أو المسلمين ما بين فكرة التمرد والعمل الإيجابي وبين فكرة الاستسلام والانسحاب أو السلبية.

 

وتُعتبر هذه المسألة، مسألة الطابع السلمي للاحتجاجات، من بين أهم ما حرصت عليه جموع الجماهير التي خرجت إلى الشوارع احتجاجًا على أوضاعها، ومطالبةً بالتغيير، حتى عندما تم استخدام العنف المفرِط ضد هذه الجماهير، ولعل ذلك أيضًا كان أحد أسباب المنعة والقوة التي اكتسبتها حركات الاحتجاج الاجتماعي الشعبية الحالية في العالم العربي.

 

وفي حقيقة الأمر؛ فإن هناك إشكالية رئيسية ترتبط بهذه المسألة، وهي أن السياسة والحكم قد لعبت دورًا كبيرًا في توجيه حركة الفقه الإسلامي خلال فترات طويلة من عمر الدولة الإسلامية، والمقصود من كلمة "حركة" هذه اهتمامات المدارس الفقهية المختلفة إزاء القضايا التي تتناولها.

 

إن الظروف السياسية في الكثير من الأحيان حالت دون تمدد أو توسع الأئمة والفقهاء في الحديث عن القواعد التي وضعها الإسلام الحنيف في مجال السياسة الشرعية والحكم، وخصوصًا فيما يتعلق بالعلاقة ما بين الحاكم والمحكوم وكذلك الواجب المطلوب من المسلمين إزاء حكامهم المسلمين عصاة كانوا أم اتوا بفعل مصنف تحت بند الكفر البواح.

فمن الملاحظ أن الظروف السياسية في الكثير من الأحيان حالت دون تمدد أو توسع الأئمة والفقهاء في الحديث عن القواعد التي وضعها الإسلام الحنيف في مجال السياسة الشرعية والحكم، وخصوصا فيما يتعلق بالعلاقة ما بين الحاكم والمحكوم وكذلك الواجب المطلوب من المسلمين إزاء حكامهم المسلمين عصاة كانوا أم اتوا بفعل مصنف تحت بند الكفر البواح.

ولذلك نجد أن هناك كثرة غير معتادة في الأدبيات التي تتناول "الأمور الإجرائية"- لو صح التعبير- في الإسلام، مع قلة ملحوظة في الكتابات والفتاوى التي تتناول قضايا الإسلام وشئون السياسة الحكم، فالفتاوى والكتب التي خرجت في أحكام الطهارة والعبادات والمعاملات أكبر بمراحل كثيرة من الكتب والفتاوى التي تناولت القضايا السياسية.

 

ولذلك فإنه عندما جاء العصر الحديث، وتغيرت الظروف، وبدأ بحث الأئمة والفقهاء المحدثون والمعاصرون عن فقه السياسة والحكم في الإسلام؛ فإننا وجدنا أنفسنا أمام حالتيْن؛ الأولى هي صعوبة وضع مؤلف متكامل يضم كل ما يتصل بفقه الحكم والسياسة الشرعية في الإسلام، وباستثناء ما حاوله الإمام محمد عبده والإمام محمد الغزالي والإمام أبو الأعلى المودودي والشيخ يوسف القرضاوي، وبعض رموز القضاء، مثل السنهوري؛ فإننا لا نجد أنفسنا أمام فقه متكامل لهذه الأمور.

 

الحالة الثانية هي خروج بعض الأسماء، وكان من بينها علماء أزهريون، مثل الشيخ علي عبد الرازق، صاحب "الإسلام وأصول الحكم" الشهير، أخطأتْ في فهم مسألة ضعف وجود الجانب الفقهي في تراثنا الإسلامي المكتوب أو الشفهي حول شئون السياسة والحكم، ورأوا أن هذا الضعف لا يعود إلى هذه الظروف التي أشرنا إليها؛ وإنما إلى ضعف أصيل في الشريعة الإسلامية نفسها، وأنها لم تأت بتفاصيل في ذلك المجال.

 

ولقد حاول هؤلاء تأسيس فقه جديد للسياسة والحكم في الإسلام بعيد كل البعد عن صلب ما جاء في الشريعة التي هي شاملة لكل الأمور، وصالحة لكل زمان ومكان.

 

عندما عرضت قضية التغيير نفسها بقوَّة على الحياة السياسية والحالة الجماهيرية في عالمنا العربي والإسلامي، كان أمام الجماهير مجموعة من الخيارات، فكانت مدرسة الثورة الشاملة العنيفة، ومدرسة الصبر حتى التمكين.

استلهام التراث أم تغييره ؟!

عندما عرضت قضية التغيير نفسها بقوَّة على الحياة السياسية والحالة الجماهيرية في عالمنا العربي والإسلامي، كان أمام الجماهير مجموعة من الخيارات التي تمحورت حول التجارب السَّابقة، أو الرؤى التي حكمت هذه العملية في تراث هذه المجتمعات، وهي مدرسة الثورة الشاملة العنيفة التي تطيح بالقديم، كل ما هو قديم، وهو في الغالب، ومن خلال الخبرة التاريخية، خيار التيارات الشيعية المختلفة.

المدرسة الثانية كانت مدرسة الصبر حتى التمكين، وهو موقف عموم أهل السنة والجماعة، وهي أيضًا قد تعتمد على العنف في بعض مراحلها المتقدمة لدى بعض الحركات الاحتجاجية.

 

ومع تقدم العصر، واختلاف صيرورات العمران البشري في الحاضر عن الماضي، بدأت الحركات الاحتجاجية في العالم العربي والإسلامي في التفكير في صور أخرى من صور الاحتجاج التي لا تعتمد على هذه المدرسة أو تلك، ومحاولة التأصيل لمدرسة الاحتجاج السلمي.

ولقد تأثرت هذه الحركات بتراث حديث هذه المرة لم يرتبط بالخبرة التاريخية للمجتمعات العربية والإسلامية.

 

ولذلك تأطرت تقسيمة أخرى للحركات الاحتجاجية التي خرجت بين ظهرانيي عالمنا العربي والإسلامي في زمننا الحديث والمعاصر في منطلقاتها وبرامجها بدلاً من المدرستين السابقتين في إطارَيْن آخرين؛ الإطار الأوَّل منها ينطلق من مفاهيم راديكالية تعتمد على مبدأ محاولة إحداث تغيير عميق ومفاجئ باستخدام وسائل تميل غالبًا إلى العنف في أثناء محاولة إحداثها لهذا التغيير، ويضمُّ هذا الإطار المدرستين السابقتَيْن، أما القسم أو الإطار الثاني فهو يعتمد على مبدأ التغيير التدرجي باستخدام وسائل وأدوات سلمية.

 

وترتبط حركيات هذه المجموعة الأخيرة في الغالب بتغيير البنية الاجتماعية والقيمية والثقافية للمجتمعات التي تستهدفها هذه الحركات، بحيث تكون هذه المجتمعات عامل حفز لمشروع التغيير؛ وليست عاملاً معوِّقًا لها أو عبئًا إضافيًّا عليها.

وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ هذه المنطلقات والمبادئ مشتقة أساسًا من طبيعة الإسلام ذاته كدين يقوم على أساس التغيير التدرجي، بشكل يراعي اعتبارات الطبيعة الإنسانية سواء على المستوى الفردي أو على مستوى ما يعرف بالوجدان الجمعي للمجتمعات الإنسانية، والذي يكون تغييره وتغيير ثوابته أصعب بمراحل من التغيير على المستوى الفردي، لارتباط ذلك بكليات تتعلق بهوية وثوابت هذه المجتمعات، والتي قد يمس تغييرها مساسًا بعقائد أو بمكتسبات مراكز القوى فيه.

 

ويكون هذا النمطُ من التغيير التدريجي ذي الطَّابع القيمي والأدوات السّلميّة في طبيعتها، أكثر إلحاحًا في مرحلة الاستضعاف، أي المراحل الأولى لأية دعوة أو فكرة عندما لا تكون قد تجذَّرت بالشكل الكافي أو اكتسبت العدد المناسب من الأتباع للإعلان عن نفسها والمنافسة، ويكون الواجب الرَّئيس في البداية هو طمأنة وتعريف المجتمع الجديد إلى طبيعة ما تتم الدعوة إليه.

وهو ما بدا في الكثير من مراحل الدعوة الإسلامية في بواكيرها الأولى، وكذلك في صميم أو صلب تعاليم الإسلام كما وردت في القرآن الكريم، شرعة ومنهاج المسلمين، مع السنة النبوية الشريفة.

في المرحلة المكيَّة من البعثة المحمَّدية؛ كانت الدَّعوة أولاً تتم سرًّا، ثمَّ تطوّرت وخرجت إلى العلن بزيادة عدد المسلمين، ودخول شخصيات مثل حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب

ففي المرحلة المكيَّة من البعثة المحمَّدية؛ كانت الدَّعوة أولاً تتم سرًّا، ثمَّ تطوّرت وخرجت إلى العلن بزيادة عدد المسلمين، ودخول شخصيات مثل حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب "رضي الله عنهما" فيها، ثمَّ بعد ذلك صارت دولة الإسلام في المدينة بعد استكمال أركان التغيير المطلوب، والذي ركز في الكثير من جوانبه على النواحي القيمية والتربية الأخلاقية.

وكانت التربية والتدرجية هي منهاج الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" الأول في الدعوة كما بدا في حديثه إلى الأعرابي الذي جاءه يطلب منه أن يأذن له بالزنا.

 

بل، إنَّ ذلك هو منطق الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم، كما في آيات تحريم الخمر ومنع الرقيق؛ بل إنَّ موضوع تحريم تجارة الرقيق لم ينزل بها نص قطعي الثبوت؛ حيث انقطع الوحي بوفاة الرسول الكريم "صلّى الله عليه وسلّم"، ولم ينزل نص قرآني بتحريم تجارة الرقيق، وذلك لأن حكمة الله تعالى علمت أن الأمر أوسع نطاقًا من أن يتم تغييره في بضع وعشرين سنة هي عمر بعثة محمد بن عبد الله "عليه الصلاة والسلام".

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …