إعلانُ البدايةِ
بدءاً أشيرُ إلى أن هذه الرسالة هي بمثـابة ( إعلانِ حربٍ ) وثورةٍ على أبي الطيّب المتنبي شاعر العربية الأشهر!
إنها ليست حرباً على شعرِهِ وأدبِهِ وإبداعِهِ ..
ولا هي حربٌ على شخصِهِ ، وصفاتِهِ ، وطرائقِهِ في الحياة ..
إنّها ثورةٌ عارمةٌ على المذهب التشاؤميّ الذي أسّسَهُ ، والسنّةِ المريضةِ التي استنّها لمن جاء من بعدِهِ من شعراء وأدباء وخطباء .
ولنبدأ الحكايةَ من أولِها .
خرجَ المتنبّي حزيناً كسيراً من بلاطِ سيفِ الدولةِ بعد أن أفلحَ الوشاةُ في الإيقاعِ بينهما ، ولم يُجْدِ الشاعرَ استعطافه ولا تنويهه بالرحيل . لم تُجدِهِ تلك الدموعُ التي أراقها بين يدي سيف الدولةِ ، كما لم يُجْدِهِ ذلك الإباءُ الذي أظهرَهُ في مثل قولِهِ :
لئنْ تركْنا ضُميراً عن مَيَامِنِنا ليَحْدُثنَّ لمن ودَّعْتُهُم ألمُ
لم يُجْدِهِ كلُّ ذلك ، وأُغلقَ دونه القلبُ الذي طالما احتفى بِهِ ، ومنحَهُ ما لم يمنحْ غيرَهُ .
توجّه أبو الطيبِ تلقاءَ مصر ، إلى كافور الإخشيديّ طمعاً في أن يحصّل هناكَ حلمَه ، ويحقق أملَهُ في أن يكون أميراً وملكاً ، كان يبحثُ عن الإمرةِ والجاهِ لا عن المالِ ، وكان كافور قد وعده بأن يحقق له كل ما في نفسِهِ .
جمجمَ أبو الطيبِ لكافور َوعرَّضَ وألمحَ ، فلما لم يُجْدِ ذلك صرّحَ بمرادِهِ ووضّح ، وقال فيما قال :
إلى الذي تهبُ الدَّوْلاتِ راحتُهُ ولا يمنُّ على آثارِ موهوبِ
وقال :
وما رغبتي في عسجدٍ أستفيدُهُ ولكنّما في مفخرٍ أستجدُّهُ
وعلى كثرةِ ما أعطاه كافورٌ للمتنبي من مالٍ وخِلَعٍ وجوائز إلا أنّه لم يحقق حلمه في الولايةِ ، وذهبتْ قصائدُهُ العشرُ في كافور باطلاً ، وانقضت سنواتٌ أربعٌ وأبو الطيب لا يرى حلمه في الإمارة إلا متباعداً ! ولا يرى من حوله إلا حرس كافورٍ يحيطون به لئلا يفرّ من مصرَ .
وفي يوم عرفة من عام 350هـ ، وبينا كافورٌ منشغلٌ باستعدادات العيدِ انسلّ المتنبي خفيةً ، وهرب من مصر قاصداً العراقَ .. وفي الطريقِ أدركَهُ العيدُ .
جاءهُ العيدُ وهو يحملُ في نفسِهِ كل خيباتِهِ وانكساراتِهِ .
جاءه العيدُ وفي قلبِهِ نارٌ تلظّى من بغضِ كافورٍ ، ونارٌ أخرى تلظّى لفواتِ حلمِهِ وأملِهِ في الملك .
جاءه العيدُ وليس في قاموسِهِ سوى الأسى والأحزانِ والآلام .
فأطلق حينها داليّتَهُ الشهيرةَ المدوّية :
عيدٌ بأية حالٍ عُدتَ ياعيدُ
أما الأحبةُ فالبيداء دونهمُ
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
ياصاحبيّ أخمرٌ في كؤوسكما
أصخرةٌ أنا ؟ ما لي لا تحرّكني
بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديدُ ؟
فليت دونك بيداً دونها بيدُ !
شيئاً تتيِّمُه عينٌ ولا جيدُ
أم في كؤوسكما همّ وتسهيدُ ؟
هذي المدام ولا هذي الأغاريدُ
وهكذا سنّ أبو الطيب ـ ولأول مرة في الشعر العربي ـ سنة التشاؤم بالعيدِ واستحضارِ الآلام والأحزانِ في ليلةٍ أرادها الله ليلةَ فرحٍ وسرورٍ وابتهاج !!
ربّما كان المتنبّي يعبّر عن شعوره الخاصِّ ، وربما كان غير شاعرٍ بما سيحدِثُهُ من دويٍّ من بعده .. ولكنه على كل حالٍ قد سنَّ سنةً ، وصار إماماً لمذهبٍ ، وجرى من بعده الجارون في هذا الميدان .. ولا سيما في عصرنا الحديث ..
فكلما أطلّ عيدٌ أطلَّ علينا شاعرٌ يندبُ وينوحُ ويصيحُ ..
فهذا أحدُهُم يقولُ :
ألا ليتَ يومَ العيدِ لا كانَ إنّهُ
يُرينا سروراً بين حزنٍ وإنّما
فمن بؤساء الناس في يوم عيدهم
قد ابيضّ وجهُ العيد لكن بؤسهم
يجدّدُ للمحزونِ حُزناً فيجزعُ
به الحزنُ جدٌّ والسرورُ تصنُّعُ !
نحوسٌ بها وجهُ المسرّةِ أسفعُ
رمى نكتاً سوداً به فهو أبقعُ
ويتلوهُ ثانٍ فيقولُ :
قالوا عجبنا ما لشعرك نائحاً
ما حيـلة العصفور قصوا ريشه
في العيد ما هذا بشدو معيِّدِ
ورموه في قفص وقالوا : غرِّدِ ؟!
ويجري ثالثٌ في الميدانِ نفسه فيقولُ :
ياعيدُ ما افترّ ثغر المجد ياعيدُ
وكيف ينشقُّ عن أطيافِ عزّتنا
طالعْتَنا وجراح البغي راعفةٌ
فللفجيعةِ في الأفواهِ غمغمةٌ
فتلك راياتنا خجلى منكّسةٌ
فكيف تلقاك بالبشرى الزغاريدُ ؟
حلمٌ وراء جفون الحقّ موؤودُ
وما لها من أساة الحيّ تضميدُ !!
وللرجولةِ في الأسماعِ تنديدُ
فأين من دونِها تلك الصناديدُ ؟
وهذا رابعٌ لا يدعُ في العيدِ مجالاً للفرحِ أصلا :
العيد أقبلَ والذّكرى تؤرقني
ما عاد في مقلتي طيفٌ يداعبني
وليس في العيدِ غير الحزنِ والسقمِ
غير الأحبةِ في الأقصى وفي الحرمِ
وأعجبْ لهذا الخامسِ كيفَ يصوّر عيدَهُ:
ذكرى أثارتْ غافيَ الأحزانِ
شجنٌ ممضٌّ صارخٌ وكآبةٌ
يا للتعاسةِ لا حبيبٌ أرتجي
أَشَجاك يوم العيد ما أشجاني ؟
خرساءُ يا للبؤسِ والأحزانِ !
منه الوصال ولا أخٌ واساني !!
ولو ذهبتُ أتتبعُ هذا المعنى في شعر الشعراء وخطب الخطباء ومقالات الكتابِ وأحاديث المتحدثين لانقضى الوقتُ والزمانُ ، وفنيَ الورقُ والمدادُ وما انقضى التشاؤُمُ والحزنُ .
فمنهمْ من يبكي همّه الخاصّ ، ومنهم من يأسى لحالِ الفقراءِ ، ومنهم من ينوحُ على واقعِ الأمة .. ثم لا يجدُ هؤلاء أجمعون إلا العيد فرصةً لتكثيفِ هذا الحزنِ ، وتعميقِ هذا الأسى .
ليست المشكلةُ في أن يعرضَ للإنسانُ الحزنُ ، فهذه مشاعرُ قلبيّةٌ قد تفرضُها أحداثٌ أو ظروفٌ ، وقد يورثُها شعورٌ صادقٌ محمودٌ بأحوالِ الناسِ ، وقد يوجبها ندمٌ على معصيةٍ أو تفريطٍ في جنب الله ، ونحنُ ندركُ أن من سمتِ المؤمنِ أن يخشعَ لمولاهُ ويبكي بين يديه حزناً على تقصيرِهِ ، وندركُ ما قاله إبراهيمُ التيميّ : ينبغي لمن لم يحزَن أن يخاف أن يكون من أهلِ النار لأنَّ أهل الجنة قـالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34] . نحنُ ندركُ هذا كلّهُ ، والمشكلةُ ليست في هذا .. المشكلةُ هي في ( تنميط ) الحزنِ ، وتكلّفِهِ ، أو تكلُّفِ إظهارِهِ في يومٍ أريد له شرعاً أن يكون يوم فرحٍ وسرورٍ .
المشكلةُ في أن تتحوّل نغمةُ الحزنِ والبكاءِ إلى ( ثقافةٍ ) عامّةٍ تصدمُ الناسَ بأدبيّاتِها كلما أرادوا أن يفرحوا بالعيدِ .
المشكلةُ الحقيقيّةُ هي أن يتحوّل هذا الحزنُ أو التحزُّنُ في يوم العيدِ إلى ( مذهبٍ ) يسعى لاغتيال الفرحِ من حياةِ الناسِ ، ويريدُ أن يقنعهم بأنّ هذا الفرح ينافي المراتبَ العاليـةَ ، وخُلُقَ أرباب العزائمِ .
هذه الرسالةُ إذنْ هي ( إعلانُ حربٍ ) و( ثورةٌ ) على هذا المذهبِ الذي يأبى إلا أن يكدّر صفو الناس وأفراحهم بأعيادهم.