تتعدّد الخيارات والبدائل المطروحة على طاولة القوى السياسية والجماهيرية الفاعلة أو القادرة على التأثير والحركة وتحريك الجماهير معها، بغض النظر عن مدى شرعية هذه الخيارات من الوجهة الدينية أو القانونية، أو مشروعيتها الجماهيرية، فهناك- وهو لا ننكره أو نؤيده في هذا الموضع- من يدفع باتجاه التغيير من خلال العمل المسلح ضد الدولة، أو يدعم فكرة التغيير الثوري العميق من قلب النظام ذاته، من خلال الانقلاب العسكري.
إلاَّ أنَّ العديد من الأكاديميين والمنخرطين في العمل السياسي، لا يؤيّدون اللجوء إلى مثل هذه الأدوات لإحداث التغيير المطلوب، فبجانب بعض المحاذير الشرعية المطروحة؛ فإنَّ استخدام العنف قد يفقد قوى التغيير التي ترفع السلاح تأييد الجماهير الفاعلة.
كما أنَّ الظرف الدولي بات غير مؤهّل لقبول مثل هذه النوعية من العمل، ولم تعد دول العالم الكبرى المتحكمة في القرار الدولي على استعداد لقبول أنظمة تأتي باستخدام القوة المسلحة أو العنف ضد الدولة والمجتمع، أو من خلال الانقلابات العسكرية.
ولا يعود ذلك إلى تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001م فحسب؛ بل إن القواعد الجديدة للعلاقات بين الدول وحركة السياسة العالمية التي أرستها تفاعلات مرحلة ما بعد الحرب الباردة؛ حيث وضعت أولوية أو أهمية كبرى بالنسبة لمدى احترام نظام بعينه لقيم حقوق الإنسان والديمقراطية، كأحد عوامل قبوله وقبول دولته كفاعل دولي إيجابي، حتى ولو كان هناك بعض الخروج على قواعد الموضوعية في هذا الأمر من جانب القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة؛ إلا أنه يظل معيار مهم للاندماج في المجتمع الدولي.
التَّغيير من خلال أدوات راديكالية الطابع كالانقلابات العسكرية، قد تعني تغييرًا لا يتمتع بالشعبية الجماهيرية اللاّزمة لضمان استقراره؛
بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ التَّغيير من خلال أدوات راديكالية الطابع كالانقلابات العسكرية، قد تعني تغييرًا لا يتمتع بالشعبية الجماهيرية اللاّزمة لضمان استقراره؛ حيث يأتي من خلال الصفوة العسكرية، ولذلك قد يكون معبّراً عن مصالح فئوية، إلاَّ في حالات نادرة، عندما يختلط بعد ذلك بالحركة الجماهيرية ومطالبها، كما قد ينتج أنظمة لا معرفة لها بالعمل السياسي المحترف القادر على توجيه الأمور إلى الوجهة السليمة، وهو ما قد يقود إلى كوارث فيما بعد.
والتاريخ السياسي لعالمنا العربي والإسلامي يخبر بالكثير في هذا الأمر؛ حيث إن الأنظمة العسكرية التي جاءت إلى الحكم بواسطة الانقلابات انتهى مصيرها إلى واحد من ثلاثة احتمالات، إما بهزيمة عسكرية، أو السقوط من خلال انقلاب آخر، أو السقوط من خلال بعض الانتفاضات الجماهيرية.
ولذلك تؤمن الكثير من القوى السياسية والوطنية في العالم العربي والإسلامي بأهمية ما اصطلح على تسميته بـ"التغيير القاعدي"، أي التغيير من خلال الجماهير، ومن خلال الوسائل السلمية اللا عنفية، مهما كان الثمن المدفوع، وذلك لأن هذه النوعية من التغيير تحمل في طياتها بعض الاشتراطات اللازمة لنجاح أي حراك تغييري، ومن بينها:
- توسيع قاعدة تأييد هذا الفعل من جانب مختلف فئات المجتمع، حتى يتم التغيير على النحو المرضي والمطلوب من جانب الجماهير.
تعميق حراك التغيير وتوسيع قاعدته في أيّ مجتمع يضمن نظامًا يتمتع بالتأييد فيما بعد،
- تعميق حراك التغيير وتوسيع قاعدته في أيّ مجتمع يضمن نظامًا يتمتع بالتأييد فيما بعد، وهو ما يضمن استمراره، وبالتالي حماية ثمرة هذا الفعل لسنوات طويلة مستقبلية، ما دامت القيادات التي أفرزها هذا الفعل الجماهيري ملتزمة بتحقيق الأجندة التي خرجت لأجلها الجماهير للمطالبة بالتغيير.
- ضمان عدم فقدان تعاطف المجتمع الدولي مع أي نظام جديد يأتي من خلال هذه الوسائل، خاصة وأن التغيير من خلال الجماهير والوسائل السلمية، مثل الانتفاضات الجماهيرية والعصيان المدني والاحتجاجات الاجتماعية، وغير ذلك من الصور، يأتي في إطار الحقوق المشروعة للمواطنين للتعبير عن آرائهم، ويعني موقفا للأغلبية يجب أن يحترم.
إلاَّ أنَّه ثمة بعض المواقف التي تذهب إلى أنَّه حتّى الحراك الجماهيري، على ما يملكه من قوَّة في الفعل والحركة الذاتية، يجب أن يتمتع بتأييد من جانب بعض مكوّنات الدّولة أو النّظام الحاكم، وخصوصاً ما اصطلح على تسميته بـ"القلب الصلب" للأنظمة الحاكمة، بحسب تعبير ضياء رشوان، مثل المؤسسة العسكرية، حماية لهذا الحراك، وحماية لثمرته الوليدة، وتمرير مطالب الجماهير، وهو ما لوحظ ضرورته من خلال الخبرة الحالية للثورات العربية.
لماذا يجب أن نحتجَّ؟
هنا لو نظرنا فقط إلى ما يوجبه فقه المصلحة في الإسلام، ومن خلال واقع حال الأنظمة الحاكمة أو تلك التي كانت حاكمة في عالمنا العربي؛ فسوف ندرك تمامًا أن رسالة الشعوب المقدسة الآن هي الاحتجاج، ومواصلة الاحتجاج، مع ما وصلت إليه أحوال الأمة ومجتمعاتها إلى أقصى مستويات الفساد والإفساد وضياع البوصلة الحضارية.
وعلى المستوى الفقهي، هناك الكثير من الأصول التي تدعم فكرة الخروج على الحاكم الفساد، ومحاربة الفساد، باعتبار أن ذلك واحدة من صور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. يقول اللهً تعالى في كتابه الحكيم ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران- 110].. ويقول أيضًا: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].
ويقول القرضاوي في مقال ضاف له بعنوان "أفضل الجهاد.. جهاد الظلم والفساد": إنَّ الإسلام يطلب مِن المسلم أمرين أساسيين؛ أولهما: ألا يظلِم، وثانيهما: ألا يكون عونًا لظالم، فإنَّ أعوان الظالم معه في جهنم.
الفساد الداخلي أخطر على الأمة من أي خطر آخر، ولذلك فإنَّ مواجهته مُقدَّم على مواجهة العدوان الخارجي والكفر
ويُعدُّ الفساد الداخلي أخطر على الأمة من أي خطر آخر، ولذلك فإنَّ مواجهته مُقدَّم على مواجهة العدوان الخارجي والكفر؛ حيث إن تفاقمه الفساد الداخلي قد يقود إلى العدوان الخارجي على الأمة مع ما يقود إليه من ضعف في أوضاعها، وفي أوائل سورة الإسراء ما يشيرُ إلى ذلك؛ حيث إنَّ فساد بني إسرائيل قاد إلى تسليط الله تعالى عليهم لعدو من الخارج جاسوا خلال الدّيار، وساموا بني إسرائيل سوء العذاب!
وفي الأخير؛ فإنَّ كلَّ شيءٍ يدعو إلى الاستمرار في الحالة الثَّوريَّة الحالية في العالم العربي، ونذكر بقول رسولَ اللهِ "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "سيِّدُ الشُّهداء حمزة بن عبد المطلَّب ورجلٌ قام إلى إمام ٍجائرٍ فأمره ونهاه فقتله" [صححه الحاكم]، وذلك حتى تنصلح أحوال البلاد والعباد.