وكأننا أمام مشهد يوم القيامة.. عباد الله وقد وقفوا شعثًا غُبرًا، لا يسترهم من متاع الدنيا إلا الشيء اليسير.. يزحفون أرتالاً، ويقفون أفواجًا، خائفين ضارعين رافعين الأكفَّ والأعين إلى السماء سائلين الله سبحانه وتعالى القبول والتوبة والمغفرة.. إنه مشهد جليل مهيب؛ حيث ملايين البشر قد وقفوا على صعيد واحد يتذكرون الله عز وجل، وقد أدركوا إنه لا يزال أمام الإنسان الفرصة للفرار من الله سبحانه وتعالى، إليه..
وفي زحام الحدث وانشغالاته، فإنَّ هناك الكثير من الخواطر والأفكار التي تعنُّ لكلِّ مسلم رأى هذا المشهد أو عايشه على أرض الواقع من قبل، أن يستحضرها في هذه الأيام، التي باتت فيها الكثير من عبادات المسلمين، مجرد أداء لشعائر، من دون مضمون أو روح.
المضمون الأوَّل من مضامين فريضة الحج، هو الجهاد، فالحاج لبيت الله الحرام، يقوم بمثل ما يقوم به المجاهد في سبيل الله تعالى، فهو يعد الراحلة، وينفق المال الحلال، ويترك أهله وولده وماله، ويذهب إلى رحلة طويلة شاقة- حتى بمقاييس عصرنا الحديث- قد لا يعود منها، مجاهدًا بنفسه، لا يبتغي إلاَّ مرضاة الله تعالى.
بل إنَّ الحج أفضل ثوابًا وأعظم أجرًا عند الله سبحانه وتعالى من الجهاد، ولكنَّه ليس أعظم عند الله من الشهادة في سبيله، وهي نقطة يجب توضحيها.. ففي الحديث الصّحيح المرفوع للنبيّ "صلَّى الله عليه وسلَّم"، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما من أيام فيها العمل الصَّالح أحبّ إلى الله تعالى من هذه العشر، يعني من ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟. قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلاَّ رجل خرج بنفسه وماله ثمَّ لم يرجع من ذلك بشيء)). (أخرجه البخاري في صحيحه).
الحاج أفضل من المجاهد في سبيل الله، إلا رجل بلغ الشهادة في جهاده، أو فقد ماله في سبيل الله تعالى.
هنا الحاج أفضل من المجاهد في سبيل الله، إلا رجل بلغ الشهادة في جهاده، أو فقد ماله في سبيل الله تعالى.
كما أن الحج جهاد للنفس بمعنى الكلمة، فالإنسان يجاهد نفسه في فترة من الأيام قد تطول وقد تقصر، فلا يحلق ولا ولا يجامع أهله، ولا يصيب من متاع الدنيا إلاَّ قليلاً، حتّى في ملبسه، فيتعلم معنى العَوَز، ويروّض نفسه على الحرمان، ويعمل على صيانة نفسه عن كلّ ما يمكن أن يُفسد عليه حجه من ذنوب ومعاصي، بما في ذلك لَمم القول والفعل، وهو أمر قد يشق على الإنسان في عصرنا الحالي.
كما إنَّ هناك لفتة مهمَّة يجب على الحاج، وعلى كلِّ الناس في حقيقة الأمر، الالتفات إليها في هذه الأيام المباركة، ضمن وجوه الجهاد العديدة في فريضة الحج، وهي فكرة جهاد الشيطان ذاته، عدو الله سبحانه وعدو الإنسان الأول.
فهذه الأيام هي الأشق على هذا المخلوق الضعيف الجاحد، ويوم عرفة بالذات شديد وعسير على الشيطان، ويقول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، إن الشيطان عليه لعنة الله، لم يُرَ في يوم أحقر ولا أصغر من يوم عرفة عندما يدرك أن الله تعالى قد تنزل من عليائه لأجل البشر، وأنه يتغمدهم برحمته ورضوانه.
فالشيطان مُوكل ببني آدم، ومهمته إفساد حياتهم الدنيا، لكي يخرجون من رضوان الله تعالى ورحمته، كما خرج هو، ويرتكبون المعاصي التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، ولذلك، فإن أشد ما على الشيطان اللعين في ذلك اليوم، هو رحمة الله عز وجل بعباده من بني آدم، وغفرانه لهم.
المضمون أو المعنى الثالث هنا هو أنَّ الإنسان في حجه يجد أمامه المجال الواسع من أجل الوصول إلى المعنى الحقيقي للعبادة، والجوهر الرُّوحي والفعلي لها، وهو ذل الطاعة لله عزَّ وجلَّ، وتواضع النفس أمام ربّ العزَّة.
فعندما يتجرَّد الإنسان من عزّه وجاهه الدنيوي، ويأتي الله سبحانه، باكيًا مستغفرًا، ولا مجالَ أمامه سوى الخضوع لله، إذا ما أراد النَّجاة والفوز بسعادة الدنيا والآخرة؛ فإنه يستشعر حقًّا ذلّ الطاعة، والذي فيه- في حقيقة الأمر- عزّ الإنسان في الدنيا والآخرة.
فذل الإنسان أمام الله سبحانه وتعالى، يحرّره من كلِّ الأغلال والقيود الأخرى، ويجعله حرًّا أمام كلِّ شيء،
فذل الإنسان أمام الله سبحانه وتعالى، يحرّره من كلِّ الأغلال والقيود الأخرى، ويجعله حرًّا أمام كلِّ شيء، وكلّ أحد عدا الله سبحانه وتعالى، الذي سوف يكفيه ويُغنيه بحوله وقدرته وقوته، عن الخضوع لأحد آخر لأجل طلب أو رجاء أو أمر من أمور الدنيا.
كما إنَّ الإنسان في هذه اللحظات يتذكر: كيف بدأ، وكيف سوف يأتي يوم القيامة حتى من دون ملابسه هذه التي تستره في الدنيا، وكيف سوف يقف بين يدَيْ السميع العليم، وأنه سوف يُحاسب، وهو في هذه الهيئة، على كل ما اقترفه في حياته الدنيا، وقد يكون ذلك على رؤوس الأشهاد إذا ما كان الإنسان عاصيًا لربه تركه لأجل عزٍّ زائفٍ؟.. فأيّ ذلٍّ وأيّ هوان؟!..
أما لو تواضع الإنسان لخالقه، ولم يذلَّ نفسه إلاَّ له سبحانه، وترك الناس، وترك السعي لحساب الدنيا، لصالح السعي والتحصيل لحساب الآخرة؛ فإنه سوف يكون من المؤمنين، الذين يشهدون على حساب الآخرين، ويكون من المستورين تحت الأرض ويوم العرض.
إنَّ التذكرة بالآخرة، وبفناء الدنيا، وأنَّها ما هي إلاَّ لعب ولهو وزينة وتفاخر، لهو من أهم الدروس التي يجب على الحاج الخروج بها من أدائه للفريضة؛ حيث إنه لو أدرك ذلك المعنى؛ فلن يعود إلى معصية أبدًا؛ لأنَّ الدنيا زائلة بما فيها وما عليها، وأنَّ الحياة الحقيقية هي حياة الآخر.
إنَّ التذكرة بالآخرة، وبفناء الدنيا، وأنَّها ما هي إلاَّ لعب ولهو وزينة وتفاخر، لهو من أهم الدروس التي يجب على الحاج الخروج بها من أدائه للفريضة؛
يقول عزَّ وجلَّ في محكم التنزيل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)}. (سُورة الحديد).
ومن بين مضامين ومستهدفات هذا اليوم أيضًا، ممار ارتبط بهذه المعاني السامية، فكرة الفرار إلى الله عزَّ وجلَّ.. يقول سبحانه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)}. (سُورة الذاريات).
وفي التفسير الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي، يقول: إنَّ مغزى الآية، أن يفرّ الإنسان من معاصيه إلى طاعة الله تعالى، ويقول ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم)، وعنه أيضًا: (فروا منه إليه واعملوا بطاعته)، ويقول الحسين بن الفضل في معنى الآية: (احترزوا من كلِّ شيء دون الله، فمن فر إلى غيره؛ لم يمتنع منه).
إنَّ الإنسان لأحوج ما يكون في عصرنا هذا، الذي كثرت فيه الفِتَن، وعظُمَت في الابتلاءات، أن يفهم ويدرك هذه المعاني، لكي يعود من معركته مع الشيطان ومع الذنوب والمعاصي وهوى النفس، وهو من الذين يُشهدُ الله تعالى عليهم ملائكته، بأنًّه قد غفر لهم، وأيُّ ثوابٍ أعظم من مغفرة الله تعالى؟!