النّفاق – بقلم: حسن الهضيبي

الرئيسية » حصاد الفكر » النّفاق – بقلم: حسن الهضيبي
alt

إن النفاق في اللغة أن يظهر الإنسان غير ما يُسر ويُبطن ويقال له منافق تشبيهًا لليربوع إذ يجعل له جحرًا يقال له النافقاء وآخر يقال له القاصعاء وذلك بأن يخرج الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب فإذا أرابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج فظاهر جحره تراب وباطنه حَفْر [الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: جـ1 ص195] ولما كان المنافق يظهر خلاف ما يبطن فقد سمي منافقًا.

وهو في الدين أيضًا بذات المعنى أي أن يظهر المرء بلسانه شيئًا من الدين خلاف ما يُسر ويبطن والنفاق في الدين قد يكون مخرجًا من الملة وكفرًا وقد يكون دون ذلك، وما يخرج من الملة: أن يجحد الإنسان بقلبه شيئًا مما افترض الله تعالى الإيمان به، وإن أظهر لسانه الإقرار بالإيمان به، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ (البقرة: الآيات 8-10)، فنفى الله الإيمان عن المنافق بقوله تعالى: ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ وحكم أن القول باللسان دون العقد بالقلب بما افترض الله تعالى الإيمان به هو مكذب، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ (سورة النساء: من الآية 145)، وقال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ (المنافقون: الآية 1)، وهذا هو حكم هذا النوع من النفاق عند الله تعالى.
قال الطبري في تفسيره: "جعل الله الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحدٍ من خلقه، فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون، ولو وكان ذلك لأحد لكان أولى الناس به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى "
أما فيما بيننا نحن البشر وفي أحكام هذه الدنيا فإن المنافق لا يسمى منافقًا إلا إذا أظهر ما يبطنه من الكفر، وإنما هو يظهر الإسلام والإيمان فهو في ظاهره لنا مسلم مؤمن يجب علينا أن نعامله بهذه الصفة وأن نجري عليه أحكام المسلمين، ولقد أَوْرَدت آيات من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة صفات النفاق والمنافقين ليعرف كل شخص حقيقة أمره وحقيقة صفته عند الله تعالى، وقد نلاحظ نحن البشر تلك الصفات أو بعضها بآخرين ولكن ذلك لا يعدو أن يكون ظنًا لا يترتب عليه أحكام، ولا ينبني عليه القطع بكفر من لوحظت بعض تلك الصفات به وإن وجب الحذر منه ومجاهدته باللسان بنصحه بالإقلاع عن تلك الصفات المذمومة، قال الطبري [الجامع لأحكام القرآن للطبري: جـ1 ص200]: "جعل الله الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحدٍ من خلقه، فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون، ولو وكان ذلك لأحد لكان أولى الناس به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى [يقول الإمام الشافعي في هذا لمقام "ومن هذا المعنى من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ... ﴾ وهذا يوجب على الحكام ما وَصَفْتُ من ترك الدلالة الباطنة والحكم بالظاهر من القول أو البينة أو الاعتراف أو والحجة ودل أن عليهم أن ينتهوا إلى ما انتهى إليه، فمن بعده من الحكم أولى ألا يحدث في شيء لله فيه حكم أو لرسوله عليه الصلاة والسلام غير ما حكم به بعينه "الرسالة للشافعي هامش ص151-157 نقلا عن الإمام جـ5 ص111].
النفاق الذي هو دون الكفر: فهو أن يبطن المرء غير ما يظهر في بعض الأمور المنهي عنها شرعًا والمعتبرة معاص
أما النفاق الذي هو دون الكفر: فهو أن يبطن المرء غير ما يظهر في بعض الأمور المنهي عنها شرعًا والمعتبرة معاص، من ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "ثلاث من كن فيه كان منافقًا خالصًا إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم" [المحلى: جـ11 ص202] وقوله عليه الصلاة والسلام: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خُلّة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" [المحلى عن طريق مسلم أيضًا: جـ11 ص202 وفي المعنى نفسه البخاري: جـ1 صـ15] فلما كان فاعل إحدى هذه الخصال المذمومة يُسرُّ خلاف ما يظهر ويقول ما لا يفعل كان فعله ذلك نفاقًا مذمومًا وعصيانً لا يخرج عن الإسلام، وبرهان ذلك أن المرتد عن الإسلام إلى الكفر حكمه القتل وهؤلاء المذكورون من المخاصم الفاجر والواعد المخلف والمعاهد الغادر والمؤتمن الخائن والكذاب في حديثه، المذكورون لا قتل عليهم لأنه لا نص في قتلهم ولا قال به أحد من الفقهاء فضلا عن أن يكون فيه إجماع.

والمنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان والإسلام إنما يخدع نفسه في الحقيقة، ومن كلام حكماء العرب: من خدع من لا يُخدع فإنما خدع نفسه، وهو بنفاقه لم يعرف الله عز وجل، إذ لو عرفه سبحانه لعلم أنالله يعلم ما يسره، وأنه تعالى لا يخدعه أحد، ومن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر" قالوا يا رسول الله، وكيف يخادع الله؟ قال: "تعمل ما أمرك الله به وتطلب به غيره" [أخرجه الطبري في كتاب آداب النفس، الجامع لأحكام القرآن: جـ1 ص19].

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

واليائس إذا سلك سبيل الأنبياء!

كاتبني أحدُ المكلومين: "ألا ترى أنّك تكتب عن الثبات وتباشير النصر، بينما لا يجد أحدنا …