هي ملكة جليلة، كانت ذات عقل راجح ورأي صائب، خلدت في التاريخ صفحة زاهية، ولم يكن من فراغ ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، كانت تعبد الشمس والنجوم ولكنها ضربت لنا مثلا من أروع الأمثال في تنازل المرء عن رأيه وأفكاره إن وجد الرّأي المقابل هو خيراً من رأيه، فكيف إن كان الموضوع تغيير دين ومعتقد وكيف إن كان فوق ذلك ذا ملك يخشى على ملكه إن غيّر معتقده ..!!
لكن بلقيس لم يهمّها ذلك، لأنها رأت برهان الحق أمام أعينها فلماذا تكون من المعاندين المتكبرين .. وحتى لو كان الثمن أن تخسر كلَّ شيء .. فلما كانت النيَّة كذلك، زادها الله فوق ملكها ذكرى طيّبة تبقى لها إلى يوم الدِّين.
نسبها وملكها:
تنسب الملكة بلقيس إلى الهدهاد بن شرحبيل من بني يعفر، و هناك اختلاف كبير بين المراجع التاريخية في تحديد اسم ونسب هذه الملكة الحِمْيَرية اليمانية، كما أنَّه لا يوجد التاريخ لسنة ولادتها ووفاتها.
وليت بعهد من أبيها في مأرب وطمع بها ذو الأذعار عمرو بن أبرهة صاحب غمدان، فزحف عليها، فانهزمت ورحلت مستخفية بزيّ أعرابي إلى الأحقاف، فأدركها رجال ذي الأذعار فاستسلمت. وأصابت منه غرة في سُكْر، فقتلته، ووليت أمر اليمن كله، وانقادت لها أقيال حِمْير، فزحفت بالجيوش إلى بابل وفارس، فخضع لها الناس، وعادت إلى اليمن فاتخذت مدينة سبأ قاعدة لها.
وازدهر زمن حكم بلقيس مملكة سبأ أيّما ازدهار، واستقرت البلاد أيّما استقرار، وتمتع أهل اليمن بالرخاء و الحضارة والعمران والمدنية. كما حاربت بلقيس الأعداء ووطّدت أركان ملكها بالعدل وساست قومها بالحكمة. وممَّا أذاع صيتها وحببها إلى الناس قيامها بترميم سد مأرب الذي كان قد نال منه الزَّمن وأهرم بنيانه وأضعف أوصاله. وبلقيس هي أوَّل ملكة اتخذت من سبأ مقراً لحكمها.
ذكرها في القرآن :
وقصة ملكة سبأ هذه في القرآن معروفة لدى الجميع ولكن إن أردنا أن نقف فقط على بعض حقائقها التي تكشف عن مدى استحقاق هذه المرأة أن يخلد ذكرها في التاريخ .. بذكرها في كتابنا الكريم الذي لا يأتيه الباطل ..
فذِكر بلقيس في آخر الكتب السَّماوية و أعظمها وأخلدها هو تقدير للمرأة في كلِّ زمان و مكان، هذه المرأة التي استضعفتها الشعوب والأجناس البشرية وحرمتها من حقوقها، وأنصفها الإسلام و كرَّمها أعظم تكريم.
وهذا في مجمله وتفصيله يصب في منبع واحد، ألا وهو أنَّ الملكة بلقيس كان لها شأنٌ عظيم جعل قصتها مع النبي سليمان –عليه السَّلام- تذكر في القرآن الكريم وهذا ما نتعلّمه من هذه المرأة العظيمة ... بأن نكون خير من يتقن فن الحوار .. وفن التنازل مع من يخالف رأينا إن صحَّ رأيه وفيه خدمة للدِّين والدَّعوة، وأن نعترف بذلك، فلن يزيدنا والله ذلك إلاَّ عزَّة وقوَّة وترابطاً .. والله الموفق
رجاحة عقلها:
إنَّ الملكة بلقيس ما كان لها هذا الشأن العظيم لولا اتصافها برجاحة العقل وسعة الحكمة وغزارة الفهم. فحسن التفكير وحزم التدبير أسعفاها في كثيرٍ من المواقف الصعيبة والمحن الشديدة التي تعرضت لها هي ومملكتها؛ ومنها قصتها مع الملك ذي الأذعار الذي كان يضمر الشر لها ولمملكتها، ولكنَّ دهاءها وحنكتها خلصاها من براثن ذي الأذعار وخلص قومها من فساده وطغيانه وجبروته.
كما أنَّها عرفت بحسن المشاورة إلى جانب البراعة في المناورة، فهي لم تكن كبقية الملوك متسلطة في أحكامها، متزمتة لآرائها، لا تقبل النقاش أو المجادلة، بل كانت كما أجرى الله على لسانها {قالت أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون} وذلك على الرَّغم من أنَّه كان بمقدورها أن تكتفي برأيها وهي الملكة العظيمة صاحبة الملك المهيب . فهي ببصيرتها النيّرة كانت ترى أبعد من مصلحة الفرد، فهّمها كان فيما يحقق مصلحة الجماعة.
ذكاءها وفطنتها :
كانت بلقيس فطينة رزينة، وكانت فطنتها نابعة من أساس كونها امرأة، فالمرأة خلقها الله –عزَّ وجل- وجعلها تتمتع بحاسة تمكنها من التبصر في نتائج الأمور وعواقبها. والشاهد على ذلك أنَّه كان لبلقيس –كعادة الملوك- عددٌ كبير من الجواري اللاتي يقمن على خدمتها، فإذا بلغن استدعتهن فرادى، فتحدّث كلَّ واحدة عن الرّجال، فإن رأت أنَّ لونها قد تغيَّر فطنت إلى أنَّ جاريتها راغبة في الزَّواج، فتُزوّجها بلقيس رجلاً من أشراف قومها وتكرم مثواها. أمَّا إذا لم تضطرب جاريتها ولم تتغيَّر تعابير وجهها، فطنت بلقيس إلى أنَّها عازفة عن الرِّجال، وراغبة في البقاء عندها، ولم تكن بلقيس لتقصر معها.
ومن أمارات فطنتها أيضاً أنَّه لما ألقي عليها كتاب سليمان علمت من ألفاظه أنَّه ليس ملكاً كسائر الملوك، وأنَّه لا بد وأن يكون رسولاً كريماً وله شأنٌ عظيم؛ لذلك خالفت وزراءها الرَّأي عندما أشاروا عليها باللجوء إلى القوَّة، وارتأت بأن ترسل إلى سليمان بهدية، وكان المراد من وراء هذه الهدية ليس فقط لتغري وتلهي سليمان – عليه السَّلام - بها، وإنَّما لتعرف أتغير الهدية رأيه وتخدعه؟ ولتتفقد أحواله وتعرف عن سلطانه وملكه وجنوده. ومن علامة ذكائها أيضاً أنَّ سليمان – عليه السَّلام - عندما قال لها متسائلاً : (أهكذا عرشك؟) فهل ترى أن تنفي أنَّه هو بناء على تلك الملابسات ؟ أم تراها تقول:إنَّه هو بناء على ما تراه فيه من أمارات ؟ وقد انتهت إلى جواب ذكي أريب: (قالت:كأنَّه هو) لا تنفي ولا تثبت ، وتدل على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة .
إسلامها :
والأروع من كلِّ ذلك استسلامها وتنازلها عن كل معتقداتها عندما رأت أكبر برهان على نبوّة سيّدنا سليمان، وعلى أنه هذا هو دين الحق، بل فوق ذلك تنعت نفسها بالظلم، فعندما قال لها سيّدنا سليمان: ادخلي الصرح كانت هناك المفاجأة .. قصر من البلور ، أقيمت أرضيته فوق الماء ، وظهر كأنَّه لجَّة .
فلما قيل لها:ادخلي الصَّرح ، حسبت أنَّها ستخوض تلك اللجة . فكشفت عن ساقيها فلمَّا تمَّت المفاجأة، كشف لها سليمان عن سرها: (قال:إنَّه صرح ممرد من قوارير).
ووقفت الملكة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر، وتدلّ على أنَّ سليمان مسخّر له قوى أكبر من طاقة البشر . فرجعت إلى الله ، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره . معلنة إسلامها (مع سليمان)لا لسليمان . ولكن (لله رب العالمين).
لقد اهتدى قلبها واستنار . فعرفت أنَّ الإسلام لله ليس استسلاماً لأحد من خلقه، ولو كان هو سليمان النبيّ الملك صاحب هذه المعجزات . إنَّما الإسلام إسلام لله ربّ العالمين . ومصاحبة للمؤمنين به والدّاعين إلى طريقه على سنة المساواة...(وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين).
وسجل السياق القرآني هذه اللفتة وأبرزها ، للكشف عن طبيعة الإيمان بالله ، والإسلام له . فهي العزَّة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين . بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله . لا غلاب منهما ولا مغلوب، وهما أخوان في الله . . رب العالمين . . على قدم المساواة .
فسبحان الله لقد كان كبراء قريش يستعصون على دعوة الرّسول صلَّى الله عليه وسلّم إيَّاهم إلى الإسلام .. وفي نفوسهم الكبر أن ينقادوا إلى محمَّد بن عبد الله ، فتكون له الرِّياسة عليهم والاستعلاء .. فها هي ذي امرأة في التاريخ تعلمهم أنَّ الإسلام لله يسوي بين الدَّاعي والمدعوين .. بين القائد والتابعين .. فإنَّما يسلمون مع رسول الله لله ربِّ العالمين .
وهذا ما نتعلّمه من هذه المرأة العظيمة ... بأن نكون خير من يتقن فن الحوار .. وفن التنازل مع من يخالف رأينا إن صحَّ رأيه وفيه خدمة للدِّين والدَّعوة، وأن نعترف بذلك، فلن يزيدنا والله ذلك إلاَّ عزَّة وقوَّة وترابطاً .. والله الموفق
مراجع للاستزادة :
أعلام النساء - عمر رضا كحالة
في ظلال القرآن - سيّد قطب