إن من عظم هذا الدين إمكانية القراءة المتجددة لنصوصه باختلاف الزمان و المكان و إمكانية انبعاث الأولين في الآخرين في مقام القدوة و إمكانية تكرر التاريخ و السنن ليصلح آخر هذه الأمة بما صلح به أولها..
وهجرة المصطفى صلى الله عليه و سلم تضيء علينا بأنوار مختلفة في الربيع العربي فنرى حلم الدولة الإسلامية ،بعد سنين بلغت بالمسلمين الأوائل كل مبلغ حتى ذهبوا الى رسول الله يقولون "الأ تدعو لنا الأ تستنصر لنا"، قد أصبح حقيقة و واقعا عزيزا و أثمر غرس 13 سنة من التضحيات دولة الاسلام التي انتشرت حتى حدود الصين و فرنسا و حتى بعد أن سقطت الدولة ظلت دعوة الإسلام قائمة فبلغت ما بلغه الليل و النهار و ما تركت حاضرة و لا بادية الا و دخلتها بعز عزيز أو ذل ذليل..
ثلاث عشرة سنة حتى قامت الدولة و أثمر التغيير مع أن القائد كان مؤيدا من الله الذي أمره بين الكاف و النون، فكيف بنا و نحن بشر أن أصبنا فبتوفيق الله و ان أخطأنا فمن أنفسنا نريد أن نقيم دولة الإسلام في يوم و يومين من غير اكتمال العدة البشرية و عدة القوة ..
"و لكنكم تستعجلون" قالها لنا رسول الله. كنا نستعجل الخلاص من الظلم قبل أن نعد لذلك الأسباب، وبعد أن أخرجنا الوهن من قلوبنا نريد أن نقلب الدنيا رأسا على عقب و الناس لم تجهز بعد لتقوم دولة الاسلام في قلوبها قبل أن تقوم على أراضيها، لقد أعطانا الناس ثقتهم و أصواتهم و لكن من يعطيك صوته قد لا يعطيك ساعده للبناء و لا فكره للاجتهاد و لا دمه للتضحية و لكن الواجب توسيع دائرة القبول لتشمل الجميع: من يجلسون على الحياد دون عداء و من ينصرون بصمت و من يعارضون و يجادلون و من يعملون و يبذلون فالبناء يقوم على قواعد و أعمدة و خرسانة ليست كلها بنفس الأهمية و لكن اجتماعها معا يشكل قوة منيعة تصمد لكثير من السنين و الابتلاءات..
الهجرة و إقامة الدولة الإسلامية كانت نهاية مرحلة التربية و الإعداد و استفتاح مرحلة التمكين و البناء،و حتى المبغضون يومها كانوا يعرفون لرجالات الإسلام قدرهم فعرفوا نبيهم بالصدق و الأمانة، و خبروا من صحابته جلدا و صبرا و قوة كالجبال لم تزعزعهم عنه صنوف العذابات التي لاقوها..
قبل الهجرة أعد المصطفى جيل الهجرة الذي استحق النصر فكان أبو بكر الذي أنفق ماله افتداء للإسلام و المسلمين و كان عمر الشديد دوما الثائر أبدا لحدود الله و كان العالم الفقيه معاذ بن جبل و كان صاحب الفداء علي و كان الشباب و الفتوة في عمار و بلال و جعفر و كان العون من خديجة و التضحية و المخاطرة و الحنكة من أسماء، كل يعرف دوره في صناعة الحدث و كل في موقعه لا يتأخر عنه و لو كان ثمن البقاء و الصمود أغلى ما يملك!!
قبل الهجرة كان هناك عمل دؤوب و ارتحال للدعوة و تنويع الخطاب مع قريش و الطائف و غيرهم وإقامة للتحالفات مع أهل المدينة و كلما فشلت وسيلة جرب الرسول و صحابته غيرها مع أنهم يعرفون أنهم أهل الحق و أن المشركين أهل باطل الا أن الرسول صلى الله عليه و سلم كثيرا ما ترك إثبات المواقف لأهداف أجل و غايات أعظم ليُعلم المسلمين أن عدم مواجهة العواصف يكون أحيانا من الحكمة و حسن التدبير ليس جبنا أو خوفا و لكن أعداد لكرة أخرى يكون الفوز و النصر فيها مضمونا بإذن الله.
الهجرة و النصر و الدولة و ما لحقها لم يأت خبط عشواء و لا بالأمنيات و إنما بتخطيط منظم و عمل و مراجعة فلما جاءت الدولة كانت أركانها واضحة و مؤسساتها جاهزة للاقامة واحدة تلو الأخرى و وُضعت القوانين و المعاهدات الناظمة لمواطني الدولة و غيرهم .
إن في الهجرة كذلك معان متجددة للأفراد و لخاصة نفس كل منا أفهمنا إياها رسول الله فقال" والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" و قال أيضا "عبادة في الهرج كهجرة إلي"
الهجرة وقفة مراجعة مع النفس و جردة حساب لا بد منها حتى نعرف ما كان و ما سيكون بإذن الله، هي فرصة للتوبة التي يقبلها الله منا برحمته الواسعة و تجديد للعهد و صدق الشاعر حين حذرنا:
قطعت شهور العام لهوا و غفلة و لم تحترم فيما أتيت المحرما
فلا رجبا وافت بحقه و لا صمت شهر الصوم صوما متمما
و لا في ليالي عشر ذي الحجة الذي قضى كنت قواما و لا كنت محرما
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة و تبكي عليها حسرة و تندما
و تستقبل العام الجديد بتوبة لعلك أن تمحو بها ما تقدما
الأمل في عامنا هذا و أعوامنا القادمة أن ذكرى الهجرة لن تكون كسابقاتها فالزمن دار دورته و دولة الإسلام الذي أرسله الله رحمة للعالمين عائدة بإذن الله
كل عام و أنتم من أصحاب السبق و الهجرة