على جاهليتهم كان مشركوا قريش ببلاغتهم الفطرية يعون مضامين الكلام و مقادر الأفعال و مآلاتها فلما أراد أبو طالب أن يحنن قلوبهم على ابن أخيه رسول الله صلى الله عليه و سلم و يؤلف بين الفريقين قبل موته قال لهم: ما طالبكم الا بكلمة،يقصد الا إله الا الله، و لكنهم ردوا عليه: و الله لو طلب ألف كلمة لأعطيناه إياها الا هذه الكلمة!!! لأن الكلمة عن العرب يومها لم تكن كلاما يردد في الهواء و إنما اعتقاد وجداني راسخ يرتبط بعمل يصل الى بذل النفس و الدم و المال رخيصة كلها في سبيل تحقيق و إعلاء هذه الكلمة
كان الفهم ذاته عند أوائل من بايعوا من الصحابة فقبل أن يعطوا رسول الله كلمتهم، التي اشترط لله فيها عليهم أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و ينصروا رسوله، أوقفهم أسعد بن زرارة و كان أحدثهم سنا، و قال" رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكابد الإبل الا و نحن نعلم أنه رسول الله و لكن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة و مقتل خياركم و أن تعضكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك و أجركم على الله و اما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خبيئة فتبينوا ذلك فهو أعذر لكن عند الله، فكان الجواب اليقيني بعد الفهم و ربط البدايات بالنهايات و المضامين بالغايات: أمط عنا بيدك يا سعد ربح البيع إنها الجنة لا نقيل ولا نستقيل"
بهذه الكلمة و توابعها سادوا الدنيا و نحن نرددها يوميا و ما نزال في انكسارنا، هم نهضوا بمعنى لا إله الا الله و نحن خذلناها بتقصيرنا،
و الاسلام ما انفك يربط بين القول و الفعل فلما جاء حارثة لرسول فرحا يبشره و يقول له "أصبحت مؤمنا حقا" نبهه رسول الله قائلا: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟" و على هذا بنى الإمام الشافعي فقال" و كان الإجماع من الصحابة و التابعين من بعدهم ممن أدركنا أن الإيمان قول و عمل و نية لا يجزىء واحد من الثلاثة عن الآخر"
بهذه الكلمة و توابعها سادوا الدنيا و نحن نرددها يوميا و ما نزال في انكسارنا، هم نهضوا بمعنى لا إله الا الله و نحن خذلناها بتقصيرنا، تحققوا بمعاني الألوهية و العبودية فعلوا بها و نحن غُلبنا و غلبناها و صدق الشاعر:
و لو أن أهل العلم صانوه صانهم و لو عظموه في النفوس لعظما
و لكن أهانوه فهانوا و دنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
و يعلق الدكتور أحمد الأبيض على المعاني اللغوية و العملية الشمولية للشهادة قائلا" إن من معاني الشهادة الحضور كأن نقول حضرت الصلاة، و من معانيها الشهادة على العالم في قوله تعالى "لتكونوا شهداء على الناس" و هذه الشهادة على العالم تحتاج التواجد معهم في كل ميادين الحياة فلا انعزال و لا انفصال، و الشهادة معناها العلم و العلم مرتبط به التوظيف فكل علم لا يوظف لا ينفع في إقامة أركان الشهادة، و الشهادة رقابة و حرص كذلك كما ورد في قول عيسى عليه السلام "و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم"، و الشهادة تحتاج لشجاعة للإدلاء بها و عدم كتمها "و لا تكتموا الشهادة"، وشهادة التوحيد إعلان فالسرية إذن ضرورة لا يُلجأ إليها الا عند الضرورة، و الشهادة أن نشهد وجودنا مع آخرين و نتعاون معهم "يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا و بينكم" ، و الشهادة أيضا مسؤولية في التبليغ و هذا ما فقهه ربعي بن عامر عندما أخبر رستم "ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد الى عباد رب العباد"، و الشهادة تستلزم أيضا الصبر على المنافقين و إمهال الجاهلين و إحسان الظن بالمخالفين فلقد قرع رسول الله حبيبه ابن حبيبه أسامة بن زيد عندما قتل رجلا من الأعداء بعدما قال لا إله الا الله و قال له: أقال لا إله إلا الله وقتلته ؟! قلت : يا رسول الله ، إنما قالها خوفا من السلاح ، قال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟! فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ، و الشهادة بذلك تكون أيضا منعة و عصمة و ضمانة و عهد أمان
بهذه المعاني لا تكون الشهادة مجرد كلمات تخرج من الأفواه لا تجاوز الآذان و انما منهاج حياة يشمل أمر الدنيا و الأخرة و أمر خاصة النفس و جموع الآخرين لو لم ينزل غيرها على المسلمين لكفتهم فكيف و قد نزل التفصيل و بينت السنة بما يضمن السعادة في الدنيا و الآخرة
على لا إله الا الله عاشوا و عليها قضوا و عليها سيلقون الله و لا ينطق بها في موقف الفصل الا من عاش بها في حياته و ذلك مصداق قول الله تعالى "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة"
روي أن سيد قطب عندما كان يمشي الى منصة الإعدام اقترب منه الشيخ الذي كان حاضرا لتنفيذ الحكم قائلا: قل لا إله الا الله فرد عليه: حتى أنت جئت لتكمل المسرحية!! نحن يا أخي نُعدم من أجل لا إله الا الله و أنت تأكل الخبز بلا إله الا الله!!
و ما أكثر من يأكلون الخبز بلا إله الا الله و يبيعون الآخرة بعرض من الدنيا!!
مقصرون بحق لا إله الا الله التي نكررها يوميا في الصلوات الخمس و علينا أن نرددها بنفس الاستغفار و الاعتذار الى الله عن تقصيرنا لعله سبحانه بلحظة صدق و عزم يجعلنا أهلا لإقامة شهادة التوحيد على أنفسنا و أهلنا و أمتنا و رحمة للعالمين أجمعين...