منذ أن بارك الله سبحانه المسجد الأقصى وما حوله، ومنذ أنَّ وطئت أقدام الأنبياء والمرسلين أرض فلسطين، أصبحت تلك الأرض والبقاع المباركة مهبط النبوات والرِّسالات مهوى أفئدة الصَّحابة والتابعين والعلماء والصَّالحين والفاتحين، فعمّروها بالصَّلاح والتقوى والعلم والمعرفة، وكتبوا عبر التاريخ على جدران المدينة المقدّسة بأحرف من نور أنَّها مدينة السَّلام يشعّ نور قدسيتها جيلاً بعد جيل في أرجاء الكون، معيدين بذلك ذكرى الأنبياء والمرسلين، ومحافظين على إرثهم وتراثهم وحضارتهم.
لقد أصبحت مدينة القدس جزءاً لا يتجزأ من جسم الأمَّة الإسلامية، فمنذ فتحها الخليفة الرَّاشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاشت في كثير من عصورها أيام مجد وعزّ في ظل دولة المسلمين، فما من والٍ أو حاكم إلاّ وكانت القدس كالقلب للجسد بالنسبة له، كرَّموا وأعزّوا أهلها ، وشادوا بيوت العلم في جميع أركانها، فلا تكاد زاوية من زواياها إلاَّ وتشهد عن موقف علم أو حكمة أو نصرة أو عزّة أو مقاومة، ولا تجد ركناً من أركانها إلاَّ وخطَّ فيه أولو العلم والمعرفة والتقوى والصَّلاح معلماً من معالم حضارة الإسلام الخالدة .
في القدس عاشوا، وفي القدس علَّموا، وفي القدس قاوموا... فمنهم من قضى نحبه شهيداً سالت دماؤه فوق روابيها، ومنهم من مات معلّماً ناشراً علمه بين النَّاس، ومنهم حكم فيها بالعدل والإحسان فضمَّ ثراها رفاتَه، ومنهم من شدَّ الرّحال إليها ففاضت روحه إلى بارئها فاحتضنت جسدَه تربتُها.
لكنَّ عجلة الزَّمن تدور ويأتي حين من الدّهر على تلك المدينة المقدَّسة، ويتكالب عليها الباطل وأهله من كلّ حدب وصوب، فيعيثون فيها الفسَّاد، فمن حقد الصليبيين، مروراً بوحشية التتار والمغول، إلى الاحتلال البريطاني الذي مهَّد عمليات الاستيطان والتهجير والتهويد، وصولاً إلى إرهاب الاحتلال الصهيوني المتواصل.
تعدّ من أقدم المقابر الإسلامية في فلسطين وفي العالم، والتي تضمّ رفات الصَّحابة والمجاهدين والعلماء والصَّالحين منذ الفتح العمري وحتَّى عام 1948م.
فمنذ أن وقعت القدس تحت هذا الاحتلال الغاشم وهي تعيش حالة خطيرة، تتهدّد فيها بيوت المقدسيين بالهدم والتهجير، ومعالم المدينة التاريخية والإسلامية بالطمس والتغيير والتغييب، حيث يعمل الكيان الصهيوني جاهداً على طمس كلّ أثر إسلامي في هذه المدينة المقدّسة بشتى الوسائل والطرق، ومن بين المعالم الأثرية التاريخية والوقفية الإسلامية التي شملتها يد الغدر الصهيوني مقبرة مأمن الله في القدس المحتلة، هذه المقبرة التي تعدّ من أقدم المقابر الإسلامية في فلسطين وفي العالم، والتي تضمّ رفات الصَّحابة والمجاهدين والعلماء والصَّالحين منذ الفتح العمري وحتَّى عام 1948م.
وهي أرض وقف إسلامي تتعرَّض إلى هجوم منظّم وشرس منذ سنوات عديدة، ارتفعت وتيرته خلال الأشهر الأخيرة من السنة الجارية، عن طريق نبش وهدم المئات من قبورها، وترحيل رفاتها، وسرقة مساحات واسعة منها، لغرض بناء مشاريع استيطانية وتهويدية جديدة؛ من متاحف وفنادق وغيرها، والتي تسير بخطى متسارعة دون رقيب أو رادع من المؤسسات والمنظمات الدولية الرَّسمية، وقد علَّق أحد الكتاب الصهاينة على السياسة الصهيونية التي تنتهج هدم القبور الإسلامية وهو ميرون بنفنسي في صحيفة هآرتس العبرية بقوله :"إنَّ هدم المقابر الإسلامية لم ينبع من ضغوط احتياجات التنمية والمصلحة العامة، وإنَّما بهدف مقصده عملية تطهير عرقي للموتى لأنَّ وجود المقابر تلك دليل على ملكية الأقصى".
ومن هنا تكمن خطورة السكوت أو التغاضي عن هذه الجريمة النكراء التي تقترفها يد الاحتلال الآثمة ضد مقبرة مأمن الله التاريخية.
ولفضح السياسة والخطر الصهيوني الذي يتهدَّد هذا الوقف الإسلامي - الذي لا تزول عنه صفة الوقفية مهما طال أو اتسع الاعتداء عليه - وكشف المؤامرة المستمرة منذ عشرات السنين لتغيير وطمس هذا المعلم التاريخي الإسلامي كان هذا التقرير الذي يعرّف بعراقة تاريخ المقبرة، وأنها ضمَّت بين أحضانها المباركة رفات بعض صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم، وشهداء هذه الأمَّة الذين طيبّوا ثراها بدمائهم دفاعاً عن قدسيتها وإسلاميتها، وعلماء أضاؤوا بعلمهم مشارق الدنيا ومغاربها.
التسمية ..
اختلفت أسماء مقبرة مأمن الله وتعدَّدت؛ فممَّا ذكر من أسمائها :
ماملا، قيل : إنَّه اسم اشتق من ماء ملا وملا هو اسم للمنطقة المقامة عليها في زمن بعيد، وفي هذا يقول الشاعر:
رعى الله وادينا المقدس أنَّه حوى روضة الفردوس أجداث ماملا
مآثر رضوان ومهبط رحمــــــة أحيت من عالم الغيب ماء مــلا
وقيل: إنَّ ماملا هو اسم قديسة بَنَت لنفسها كنيسة بيزنطية في تلك المنطقة، وأنَّ الفرس قاموا بهدمها وألقوا في البركة التي تقع فيها جثث القتلى.
وقيل: إنَّها مشتقة من ماء ميلو وميلو هو الحي الذي كان مقاما هناك.
سمّيت أيضاً بـ: مأمن الله ، وباب الله، وزيتونة الملّة، ويسمِّيها اليهود ببيت ميل، والنصارى بابيلا، وأشهر أسمائها هو ماملا ومأمن الله، وفي هذا التقرير نختار هذا الاسم الأخير وهو (مقبرة مأمن الله) لشهرته في الكتب والمصنفات التاريخية وواقعنا اليوم.
الموقع والمساحة:
تعدّ مقبرة مأمن الله كما ذكر صاحب ((المفصل في تاريخ القدس))عارف عارف أنَّ مقبرة مأمن الله " أو " ماملا ، أقدم مقابر القدس عهداً وأوسعها حجماً، وأكبرها شهرة، حيث ساير تاريخها تاريخ المدينة، وذكر معه مراراً
تقع مقبرة مأمن الله غربي مدينة القدس القديمة على بُعدِ كيلومترين من باب الخليل، وهي من أكبر المقابر الإسلامية في بيت المقدس، وتقدَّر مساحتها " بمائتي دونم "، بينما قدَّرها المهندسون بتاريخ 16/4/1929 بـِ ( 137.450.29م2) أي: بنحو 137 دونماً ونصف، علماً أنَّه استثنى منها بناية الأوقاف التي كانت مبنية على جزء من أرض وقفها، ومقبرة الجبالية التي كانت على القندرية، والتي يفصلها عن المقبرة الشارع، وعندما سجلت المقبرة في سجلات دائرة الأراضي – الطابو- بتاريخ 22/3/1938م سجلت مساحتها (134.560م2) من الدونمات، واستصدر بها وثيقة تسجيل أراضي "كوشان طابو" ضمن أراضي الوقف الإسلامي.
تاريخ عريق للمقبرة :
تعدّ مقبرة مأمن الله كما ذكر صاحب ((المفصل في تاريخ القدس))عارف عارف أنَّ مقبرة مأمن الله " أو " ماملا ، أقدم مقابر القدس عهداً وأوسعها حجماً، وأكبرها شهرة، حيث ساير تاريخها تاريخ المدينة، وذكر معه مراراً، ففي هذا المكان مسح سليمان ملكا( 1015ق.م)، وفيه عسكر " سنحارليب " ملك الآشوريين عندما هبط القدس ( 710 ق.م )، وفيه ألقي ألقى الفرس بجثث القتلى من سكان المدينة عندما احتلوّها (614ب.م)، وفيه دفن عدد كبير من الصَّحابة والمجاهدين أثناء الفتح الإسلامي (636ب.م) وفيه عسكر صلاح الدين يوم جاء ليسترد القدس من الصليبيين ( 1187ب.م) .
تاريخ الدفن في المقبرة:
رجّح بعضُ الباحثين أنَّ تاريخ الدفن الإسلامي فيها يعود إلى ما قبل الصليبيين، وعندما احتل الصليبيون القدس وارتكبوا فيها مجزرة بشعة؛ حيث قدر عدد الشهداء في هذه المجزرة من الرِّجال والنساء والأطفال بـِ(70.000) شهيد، أمر الصليبيون من بقي من المسلمين بدفن الشهداء في مقبرة " مأمن الله "، وقد وجدوا بها مقابر وأنفاق، فوضعوا جماجم الشهداء فيها، وقيل: إنَّ نفقاً لا يزال تحت الأرض في الوسط الغربي من المقبرة كله مليء بالجماجم، وأنَّ قطره نحو خمسة أمتار، وله امتداد أكثر من مئة متر – والله أعلم - .
وعندما حرَّر السلطان صلاح الدين الأيوبي القدس من يد الصليبيين أمر بدفن من استشهدوا في المعارك مع الصليبيين في نفس المقبرة ، وتوالى الدفن فيها بعدئذ فضمَّت قبور مئات العلماء والفقهاء والأدباء والأعيان والحكام من المدينة ، والمعروف في التاريخ أن كثيرين من العلماء كانوا يحملون في القاهرة كي يدفنوا فيها.
هؤلاء دفنوا فها :
في القدس عاشوا، وفي القدس علَّموا، وفي القدس قاوموا... فمنهم من قضى نحبه شهيداً سالت دماؤه فوق روابيها، ومنهم من مات معلّماً ناشراً علمه بين النَّاس، ومنهم حكم فيها بالعدل والإحسان فضمَّ ثراها رفاتَه، ومنهم من شدَّ الرّحال إليها ففاضت روحه إلى بارئها فاحتضنت جسدَه تربتُها.
تكلَّم أكثر من باحث مختص أنَّ مقبرة " مأمن الله " تحتضن في ثرى جنباتها رفات الصحابة أمثال " عبادة بن صامت"، وقد ذكر المقبرة النابلسي في رحلته؛ فقال: (إنَّها بظاهر القدس من جهة الغرب، أكبر مقابر البلد، وفيها خلق كثير من الأكابر والأعيان والشهداء والصَّالحين وفيها عدد كبير من الصَّحابة والتابعين).
وعلى العموم، فإنَّ مقبرة " مأمن الله " تأوي رفات أكثر من سبعين ألفاً بين صحابي وشهيد وعالم وزاهد، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
1-الأمير عيسى بن محمد العكاري الشافعي : هو أحد كبار مستشاري السلطان صلاح الدين الأيوبي وقد توفي - رحمه الله – عام 585هـ بمنـزله في الخروبة – قرب عكا – وحمل إلى القدس الشريف ودفن في مقبرة " مأمن الله " .
2-الشيخ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد القرشي الهاشمي (توفي عام 599 هـ).
3-الأمير صلاح الدين محمد ازدهر السلحدار الناصر (ت 697 هـ).
4-الشيخ شهاب الدين " أبو العباس " 684هـ 728هـ " هو أحمد بن الشيخ محمد بن عبد الولي بن جبارة المقدسي الشافعي ، الفقيه والنحوي .
5-القاضي شرف الدين منيف الحاكم بالقدس (توفي عام 714 هـ).
6-قاضي القضاة عماد الدين القرشي، شارح صحيح مسلم (ت 734 هـ).
7-قاضي القضاة شيخ الإسلام محمد بن جمال الدين بن سعد بن أبي بكر بن الديري العبسي الحنفي – ولد في حردا بالقرب من " مدينة نابلس " في حدود عام 750هـ وسكن بيت المقدس وصار من أعيان العلماء، كان فقيها ومدرّساً، ولاه الملك المؤيّد قضاء الديار المصرية، ولكن في عام 827هـ قدم إلى القدس لتمضية شهر رمضان فيها وزيارة أهله ، وبينما هو يهم في الرجوع إلى مصر وبعد أن أخذ يودع القدس وأهلها ، فإذا بالموت يدركه فيتوفى – رحمه الله – في القدس كما أحب ، ودفن في " مقبرة مأمن الله".
8-شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن أرسلان، مؤلف صفوة الزبدة، وشارح سنن أبي داود، وشارح البخاري ومنهاج البيضاوي (توفي عام 844 هـ).
9-أحمد بن محمد حامد بن أحمد الأنصاري المقدسي الشافعي الذي حفظ القرآن الكريم واشتغل بالتحصيل والسماع، وقد عرض عليه قضاء القدس فأبى، وكان صالحا زاهدا ناسكا قانعا بالقليل (توفي عام 854 هـ).
10-أبو الوفا بن عبد الصمد بن محمد بن عمر بن سعد الدين بن تقي الدين الشهير كأسلافه بالعلمي الشافعي القدسي هو من بيت الولاية والصلاح لهم الرتبة العلية في القدس، كان شيخنا كبيراً صالحاً مرشداً من الأخيار حسن الأخلاق صافي السريرة بشوشاً عالماً عابداً عاملاً زاهداً وافر الحرمة مقبول الكلمة مجللاً عند خاصة الناس وعامتهم، توفي عام 1109هـ.
11-طه بن صالح بن يحيى بن قاضي القضاة وشيخ الإسلام نجم الدين أبي البركات محمد المكنَّى بأبي الرّضا الديري المقدسي الحنفي أخذ العلم عن مشايخ عدَّة أجلهم الشيخ رضي الدين اللطفي مفسّر القرآن، وكان معيداً لدرسه التفسير بالباب القبلي في الصخرة، وكانت له اليد الطولى في علم الأصول والنحو والتفسير، وولى نيابة الحكم وكتابة الصكوك بالقدس من سنة 1022هـ إلى 1042هـ، وتوفي سنة 1071هـ .
12-عثمان بن علي الصلاحي العلمي الحنفي القدسي خطيب المسجد الأقصى وإمام الصخرة المشرفة، نشأ في حجر أبيه وقرأ عليه كتباً عديدة وكان والده من الأفاضل ويغلب عليه معرفة العلوم العربية ولزم درس الشيخ علي اللطفي وكان يلازم المطالعة في داره ويباشر الخطابة بنفسه وله صوت جيد تميل إلى سماعه أهل بلدته حتى إن يوم خطبته يمتلي الأقصى ناساً لسماع خطبته، توفي عام 1168هـ .
13-مصطفى العلمي بن محمد بن أحمد المعروف بالعلمي والصلاحي الحنفي القدسي خطيب المسجد الأقصى وإمام الصخرة المشرفة بالقدس الشيخ الفاضل الفقيه كان جميل الصورة حسن الصوت، توفي عام 1171هـ .
14-عبد الله بن عبد الرَّحمن العلمي القدسي كان حسن الخلق على نهج السادة الصوفية سالكاً طريق جده القطب العلمي ملازماً للأوراد والصلوات معتنياً بالخلوات رافلاً في حلل العبودية في الجلوات، ولم يزل على هذه الحالة الحسنة إلى أن مات وكانت وفاته في سنة 1181هـ، وعمره ثمانون سنة .
15-محمَّد بن محمّد الطيّب المالكي الحنفي التافلاتي المغربي مفتي القدس الشريف علامة العصر الفائق على أقرانه من كبير وصغير، توفي عام 1191هـ .