“هدهد سليمان”..دروس في الإيجابية

الرئيسية » بصائر تربوية » “هدهد سليمان”..دروس في الإيجابية
alt

 من أنا، وهل يمكنني - وحدي – أن أغير في هذا الكون الواسع، هل يمكن أن أكون مؤثرة ، فاعلة ، مفيدة ... قد حاولت لكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. فذاك وسعي وطاقتي قد نفذا، وتلك قدراتي استُنفذت واستهلكتها أعباء الأيام الثقيلة ...

كان هذا لسان حالي، والشيطان زين لي أفكاري فكنت مع نفسي الأمارة في وجه كل همَّةٍ قد تميزت بها من قبل. ورضيت أن أكون مشفقةً على ذاتي فأنا أم لأربعة أبناء ، أصادقهم وأدرّسهم ، وعندي غير أعباء المنزل الثقيلة ، كثير من الواجبات الأخرى التي أخذت عهداً على نفسي أن أمضي بها طالما في الجسم قوَّة وفي البدن همّة ،، فهل تلف البدن وخارت الهمم ؟؟

تساءلت طويلاً ... لا يكلّف الله نفساً إلاَّ وسعها ..
وُسْعِي؟؟؟؟هل ذاك هو أقصى ما أستطيع ؟؟؟
توقفت كثيراً ، أريد أن أكون صادقة مع نفسي ...
و جاءت ابنتي الصغيرة تسألني أن أقرأ لها قصةً كنت قد انتقيتها لها قبل أيام كهدية نجاح.
"الهدهد السليماني " كان ذلك عنوان القصة .. شدّني العنوان كثيراً يومها ، ولكني لم أقرأها، إلى اليوم وكأنها كانت إشارة لي : {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}.

قرأت القصة لابنتي، ولنفسي، وسهرت تلك الليلة أستقي من روائع تلك القصة، العبر والنفحات .
وتلوت الآيات التي تتحدَّث عن تلك القصة في القرآن الكريم، تلوتها مراراً  وتكراراً وكلّ مرَّة كنت أتلذذ بالتلاوة أكثر من سابقتها، وكأنني لأوَّل مرَّة أقرأ قوله تعالى :{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ (20) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26). سورة النمل.

تحرّق فتحرك :
يا الله ، من أين تلك الهمَّة ؟ ويا لتلك الحرقة التي حركت طيراً لم يتميز عن سائر الطيور بلون أو شكل بل بالعكس، فالهدهد في العادة نوع من الطير .. في رائحته نتن، وفوق رأسه قزعة سوداء ، وهو أسود البراثن ، أصفر الأجفان ، يقتات الحبوب والدود ..." فما الذي ميّز هذا الطير ؟؟ وما الذي جعله أهلاً لأن يذكر في قرآن محفوظ يتلى إلى يوم الدين ؟؟
توقفت عند... "أنا" التي تساءلت كثيراً فيما قدّمَتْ للأمة ، وحزنت لأنني لم أستطع إلا أن اقرّ وأعترف بأنها أدنى من هذا الهدهد ..فذاك أثر الإيمان في هذا الهدهد العاقل، فأين عقلاء البشر عن الأمور العظام وهموم الامة وحاجاتها. وكيف أثر الإيمان فيك عملياً، هل الهدهد السليماني أوفى لعهد المسؤولية مني؟؟

ولكن ذلك لم يحملني على إلياس أو الإحباط ، بالعكس تماما ، فقد سهرت تلك الليله وفي نيتي أن أتعلم من الهدهد السليماني ما وفقني الله لتعلمه ، وأن أحاول أن أسوق لكم بعضه، علّ الاستفادة تكون أوسع بإذن الله .

الإيجابية :
تلك ميزة مهمَّة في الهدهد السليماني، ومن يستطيع أن ينكر ذلك، فتلك الإيجابية العملية التي  حرَّكت الطائر المتحرّق لخدمة الدين ، لينطلق دون تكليف مسبق ولا تنفيذ لأمر صادر ولا طلب من مسؤول .. تحرّك بهمَّة عالية وإخلاص وتفانٍ وجلب للقيادة المؤمنة خبراً أدى إلى دخول أمَّة كاملة في الإسلام .
تلك الإيجابية التي ما دعت الهدهد لتخطي القائد، وإنَّما بقيت في نطاق الفائدة لا الضرر، والفرد الفاعل ضمن الجماعة الفعالة .. لا يخرج عنها وإنما يخرج ليعود إليها بكل الخير والفائدة .
توقفت عند الهدهد الذي عرفناه منذ الصّغر ولكننا ما وفيناه حقاً ولا عرفنا له قدراً-للأسف- مع أنَّه ذكر في القرآن الكريم .

وفاء وفداء :
فذاك أثر الإيمان في هذا الهدهد العاقل، فأين عقلاء البشر عن الأمور العظام وهموم الامة وحاجاتها. وكيف أثر الإيمان فيك عملياً، هل الهدهد السليماني أوفى لعهد المسؤولية مني؟؟
هدهد ... يعرض نفسه للخطر في سبيل القضية التي يحملها والامانة التي أخذ على عاتقه تحملها .
هدهد ... يترك الراحة والدعة والأمان ، لينطلق للاستكشاف، لا استكشاف المواهب الفارغة، والكنوز الواهية، والحقائق السرابية. بل الحقيقة التي اهتم بمعرفتها والقضية التي تلامس اهتمامات الداعية الحقّ .
هدهد ... يعرّض نفسه للعقاب الشديد في حال أخفق في صيد الثمين ، {لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}....لكنه يعلم جيّداً أنَّ للإخلاص لله تعالى لا يؤدّي إلاَّ لطريق واحد، هو النجاح .
توقفت عند "أنا" كثيراً ... وتمنيت لو كانت لها مثل همّة الهدهد السليماني، ولكن وما نيل المطالب بالتمني ، ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً.

ماذا بعد القصة ؟
تفحصت أيّامي .. بنظرة متأنية .. وحاولت أن أعصر ذاكرتي لأخرج بموقف لِـ "أنا" يشبه أو يقارب موقف الهدهد السليماني ، أو حتى موقف النملة التي ذكرت في السورة ذاتها : قال تعالى:{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.سورة النمل.
تلك النملة التي بدا جليّاً حرصها على مجموعتها، وخوفها عليها، فلم تدخل جحرها لتنقذ نفسها وإنما آثرتهم على نفسها فأمرتهم بالدخول، وهي لا تزال خارجا معرضة للخطر في أيّ وقت ...
أين " أنا " من هدهد أو نمله ؟؟
الإيجابية، خلّدت من مرتبته في التكريم الرَّباني أدنى من مرتبتي.. والصِّدق في الدَّعوة جعلت من الهدهد كائناً متميّزاً في أذهاننا ...
تعلَّمت من قصة الهدهد السليماني، أنَّ الإيجابية التي يفتقدها كثيرون هي التي ستنهض بالأمة لتزهو وسط الأمم . وأنَّ الوسع الذي نستطيع أكثر بكثير مما قدمنا .
تلك الإيجابية بقواعدها وأحكامها، أن نغيّر بالحكمة، بالعقل المتّزن، السيّئ إلى حسن والحسن إلى أحسن، ولا نخرج أبدا من نطاق الجماعة المنسجمة بالرؤى والأهداف ولكننا ضمن هذه الجماعة أفراد دعاة، نتحرّق لنسوق الخير والفائدة لأمتنا العظيمة، فنتحرّك لنقول لـ" أنا" بأنَّها عظيمة متى وصلت بالله نفسها ..

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …