في بيئة إسلامية أصيلة، وأسرة دينية عريقة، ولد الإمام العلم السباعي، في حمص المكرمات كان البداية، عاش في ربوع العلم ينهل من معين والده العالم والمجاهد والخطيب، يذهب معه ويجالس الكبار من فقهاء حمص وعلمائها الأخيار، ممَّا أورثه ملكة منذ الصغر، ونبوغاً فأمد به الأٌقران، وقد قدر له ذلك كل من عرفوه، فأحبوه وأكرموه وأجلوه، إنه الطفل الكبير: مصطفى حسني السباعي.
البدايات ..
لم تكن البلاد تعيش حريتها واستقلالها بعد، بل كان طغيان الاستعمار الفرنسي جاثماً على صدرها، وهي تئن من وطأة وعظم البلاد.
في هذه الظروف العصبية بدأت تتكون شخصية السباعي، بين طالب علم همه الجد والتحصيل، وشاب ثائر على الظلم والعدوان والإفساد، وكثيراً في حل مكان أبيه في الخطابة في جمع مشهودة بالحمية والغيرة الإقدام، وهو لا يزال في ريعان الصبا، لكنه الكبير الكبير في نشاطه وعلمه ودعوته، مما أعلا مقامه رغم الصغر، وهذه حال الرجال المصلحين.
طلبه العلم ..
بدأ بحفظ القرآن ودراسة العلوم الشرعية على أبيه حتى وصول الابتدائية في المدرسة المسعودية، واجتازها بتفوق ملحوظ، فالتحق بالثانوية الشرعية، وكان فيها مبرزاً لفت إليه الأنظار، وتخرج منها عام 1930م، وقد توقع له أساتذته مستقبلاً علمياً باهراً لما كان يتمتع به من ذكاء نادر وبديهته حاضرة وبصيرة نافذة ، وقد صدق الظن.......
نعم لقد كان السباعي حركة مستمرة لا تعرف الكل ولا الملل، أينما حل ارتجل، ولا يرحل حتى يترك بصمة من علمه وفضلة ودعوته، وقد أخبر فيه علماء حمص هذه الخصال فأحبهم وأحبوه، وكان له شيوخ كبار منهم الشيخ طاهر الأتاسي مفتي حمص، والشيخ زاهر الأتاسي، والشيخ محمد الياسين عبد السَّلام، وغيرهم من المشهود لهم بالعلم والتقوى والصلاح.
في عام 1933م، قرَّر الالتحاق بالأزهر الشريف، لمتابعة التحصيل الشرعي،
في عام 1933م، قرَّر الالتحاق بالأزهر الشريف، لمتابعة التحصيل الشرعي، وانتسب إلى قسم الفقه، فكان أبدع مما كان، لفت إلهي الأنظار وأدهش الكبار، ثمَّ انتسب إلى كلية أصول الدين واستحق إجازتها بتفوق، وجهز نفسه لنيل رجة "الدكتوراه" في التشريعي الإسلامي وتاريخه، وكان له فأراد فقد حصل على درجة الامتياز بعد مناقشة لجنة من كبار علماء الأزهر عام 1949.
"السنة ومكانتها في التشريعي الإسلامي" أطروحة علمية عميقة، استوعبت الموضوع وجمعة المتفرق، ودحضت الحجة بالحجة، ووقف فيها السباعي رحمه الله مكافحاً مدافعاً في وجه شبهات المستشرقين وأعداء السنة، بالأدلة العملية الدافعة. ولذا فقد أصبح الكتاب من أهم المراجع العملية في موضوعه، وهذا ما شهد به العلماء وطلاب العلم والباحثون.
الوظائف ..
كان مغرماً بتدريس العلم لما فيه من أثر على النشء من تربية على أخلاق الرجولة، وقوة مستقاة من العلم الذي يتلقون، هدفه أن يرى رجالاً مؤهلين للمسؤولية، قادرين على حمل الأعباء لتحرير البلاد من الاستعمار وآثاره، وقبل ذلك كانت تشغله القضية الكبرى فلسطين مع غيرها من هموم العالم الإسلامي.
أحبّ أن يرى جيلاً يمسك القلم بحكمة، ويقود الأمَّة بإيمان، ويخطو بيقين، جيل اشرأبت إليه أعناق الملاين في بلاد الشام، وقد عسف بها الجوار، وضاقت بها الحال، هذا ما أراده الدكتور العالم مصطفى السباعي وهو يعطي بلا كلل أو ملل هذا النشء الصالح عصارة فكره ولب علمه وجوهر حكمته، فكانوا يحق رجالا يوم عز الرجال...
لم يجد السباعي رحمه الله ما يكفي لاستيعاب طاقاته المتوثبة المتوقدة، فانطلق بطموحه العلمي وشعوره بالمسؤولية إلى التفكير بإنشاء كلية خاصة بالشرعية الإسلامية،
درس العربية في حمص ثم انتقل إلى دمشق وأسس فيها المعهد العربي الذي أصبح بانضمام جمعية التمدن الإسلامي "المعهد العربي الإسلامي". وبدأت فروعه تتوزع الأرجاء. ولأنه السباعي فقد كانت المؤهلات تنتظره لمهام أكبر من ذلك، فوقع الاختيار عليه أستاذا في كلية الحقوق عام 1950م، ومع هذه المكانة والألمعية لم يجد السباعي رحمه الله ما يكفي لاستيعاب طاقاته المتوثبة المتوقدة، فانطلق بطموحه العلمي وشعوره بالمسؤولية إلى التفكير بإنشاء كلية خاصة بالشرعية الإسلامية، ورغم العراقيل والصعوبات نجحت بفضل الله المساعي، وتأسست كلية التشريعية عام 1955، وكان أول عميد لها، مع استمراره بالتدريس في كلية الحقوق، إضافة إلى عظم الحمل والمسؤولية الملقاة على عاتقه آنذاك كونه الداعية المعلم والإمام صاحب القضية والفكرة.
وبفضل الله عزَّ وجل، ثمَّ جهد السباعي نهضت هذه الجامعة العظيمة بكفاءات عالية وعلماء صادقين أرسوا دعائمها على أسس علمية وفكرية، مستبصرين بالأساليب الحديثة لتحقيق الهدف المنشود، كي تتخرّج منها أيجال العلماء والدعاة والفقهاء والمدرسين المؤهلين لحمل الرسالة والقيام بواجب العلم والدعوة والتمكين.
وقد قام بالواجب خير قيام، وتحمل العناء حتى آتت الشجرة الثمار، وأينعت الثمار بالأكل. والحق أنه قام بما يعجز عنه الرجال، رغم كل العوائق والصعوبات، إضافة إلى ما ألم به من أمراض وأوجاع وأسقام، فلم تفتر له عزيمة ولم تلن له .... ، وكان يقول لأصحابه "خير لي أن أموت وأنا أقوم بواجبي نحو الله من أن أمونت على فراشي، فالآجال بيد الله، وإن ألمي من حرمان الطلاب من دروس التوجيه أشد وأقسى من آلامي الجسدية، وحسبي الله وعليه الاتكال".
مناصب السياسية
لم تكن حمص بلد السباعي وحسب، بل كانت كل مدينة وبلد في هذا العالم الإسلامي تتوق لهذا الرجل العملاق، نعم لقد كان بحق ابن الإسلام أينما كان وف يكل مكان.
انتخب نائباً عن دمشق في الجمعية التأسيسية التي تحولت بعد الدستور إلى البرلمان عام 1949- 1954 م، وذلك لثقة الناس به وبدينه وفقهه، وقد أثبت شيخنا السباعي حسن الظن فكان البرلماني الصادق الشعبي، والصوت المجلجل في الجماهير، يدافع عن حقوقهم ويبحث عن مكتسباتهم، ويدفع عنهم المظالم ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
بهذه الصفات الربانية دخل السباعي معترك السياسية، فاتجهت إليه الأنظار، وأحبته القلوب فانتخب نائبا لرئيس المجلس
بهذه الصفات الربانية دخل السباعي معترك السياسية، فاتجهت إليه الأنظار، وأحبته القلوب فانتخب نائبا لرئيس المجلس، وأهلته الثقة لعضوية لجنة الدستور العامة ليكون أحد التسعة الذين وضعوا المسودة، وقد قام رحمه الله بتضمين مواد إسلامية رائعة، ما زال العلماء يذكرونه بها..
لم يكن شيخنا السباعي رجل مناصب، فقد بذلت له فرفضها، وجاءته العروض فأعرض عنها، وأصر أن يبقى ابن الجماهير، ينادي باسمها ويتكلم بلسانها، فهذا ما عاهد ربه عليه، وهذا ما نذر حياته لأجله منذ أن كان فتى صغيراً وخطيباً معلماً.