أثار الدور الكبير الذي لعبته الحركة الإسلاميَّة، على اختلاف أطيافها، في ربيع الثورات العربيَّة الذي لا يزال مستمرًّا إلى الآن، وكذلك دور الحركة الإسلاميَّة بألوانها الفكريَّة ومشروعاتها للتطوير الاجتماعي والسياسي والحضاري العام في مرحلة ما بعد نجاح هذه الثورات في العديد من البلدان العربيَّة، الكثير من النقاشات حول بعض الجوانب ذات الصلة بالمحتوى الفكري والعقدي الذي تحركت في إطاره القوى والحركات الإسلاميَّة خلال أحداث الثورات وما بعدها.
ومدعاة هذا الكلام، هو أن البعض- استنادًا لعوامل سياسيَّة حاول إلباسها الزي الشرعي- اتخذ من الثورات موقفًا عدائيًّا كوسيلة للتغيير الذي يشمل مختلف نواحي الحياة بما في ذلك تبديل النظم القائمة بسبب ما قادت إليه الأمة من تدهور وتردٍّ حضاريٍّ، والسعي إلى تطوير المجتمعات. وهو موقف، كما يقول محمد عمارة يكرس "الواقع” ويمنحه "الشرعية" و"البركة", ويرون أنه إن كان لابدَّ من التغيير فليكن عن طريق الإصلاح التدريجي- الذي هو مطلوب بلاشكَّ- والذي لا يصل إلى درجة الثورة.
كما أن هناك بعض المواقف التي قبلت الثورات الأخيرة على مضض، باعتبارها أمرًا قد حدث أو "نازلة يجب على المؤمنين التسليم بها" و"التعايش معها" أو "محظوراً و محرماً تبيحه الضرورة فقط!!
ومبدئيًّا يجب التأكيد على أن الإسلام دين شامل، ويتضمن الإيمان بشموليَّة الإسلام الإيمان بعددٍ من الثوابت أو الأمور البديهيَّة، وعلى رأسها الإيمان بأن الإسلامَ دين كل زمان ومكان، فهو دين شامل في الماضي والحاضر والمستقبل، والإسلام- أيضًا- دين عالمي ليس خاصًّا بالعرب أو بالشرق فقط؛ بل هو دعوةٌ عالميَّة أُرْسِلَتْ للناس كافة.
وتُعْتَبَر الآية "89" من سُورة "النَّحل" هي الأساس المتين لهذه القناعة الإيمانيَّة.. قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾، وفي هذه الآية الكريمة يؤكد الخالق عز وجل على أن القرآن الكريم بيَّن للإنسان كل أموره، بما فيها المناحي الرُّوحيَّة والفكريَّة وكذلك السياسيَّة والاقتصاديَّة، وغيرها من أمور حياته.
وهي كلها أمور تدخل في بند المعلوم من الدين بالضرورة، فالقرآن الكريم وصحيح السنة النبويَّة الشريفة بها العديد من النصوص التي توضح شموليَّة رسالة الإسلام ومرجعيتها لكل زمانٍ ومكانٍ، فبالإضافة إلى ما ورد في آية التِّبيان في سُورة "النَّحل"، يقول الله عز وجل عن نَبيِّه "صلَّى الله عليه وسلَّم": ﴿ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء- الآية: 107]، وعن كتابه العزيز يقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [سورة التَّكوير- الآية 27].
وفي القرآن الكريم أيضًا يقول الله تعالى آمرًا رسولِه الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم": ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [سورة الأعراف- من الآية: 159]، وفي هذا قال "صلَّى الله عليه وسلَّم" صدوعًا بأمر الله تعالى له "صلَّى الله عليه وسلَّم": "إنَّما بُعِثْتُ للنَّاس كافَّة" [أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد].
وبالتالي فإن الإيمان بشموليَّة الإسلام يعني أيضًا بالإيمان يما أطلقت عليه أدبيات الحركة الإسلاميَّة مصطلح "الشمول الموضوعي" للإسلام، والتي تعنى الإيمان بأنه يستوعب شؤون الحياةِ كلها، بمختلف ألوانها العامة والخاصة، وفي مختلف فروعها، الاجتماعيَّة والسياسيَّة والفكريَّة والاقتصاديَّة، وغير ذلك.
ومن بين أبرز الجوانب التي ينبغي إدراكها في الإسلام كدين ومنهاج حياة، هو أن الإسلام نزل بالأساس للثورة على أوضاع سيئة قائمة في المجتمعات الإنسانيَّة، وأن التغيير هو قلب أو جوهر الرسالة.
فالإسلام لم ينزل لكي يحفظ لأصحاب النفوذ نفوذهم، أو يُبقي على الوضع القائم بما فيه من سلبيَّات؛ بل نزل الإسلام من أجل الارتقاء بقيمة الإنسان وبكرامته، والثورة على الأوضاع القديمة التي كانت تسود الإنسانيَّة في وقت نزول الرسالة على محمد "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وخصوصًا الأفكار الشِّرْكيَّة والجاهليَّة التي كانت سائدة في شبه جزيرة العرب، وفي غيرها من المجتمعات الإنسانيَّة.
لعب التأويل الثوري للإسلام دورًا كبيرًا في تعبئة وتحريض قطاعات كبيرة من الشعوب المسلمة في ممارسة الجهاد ضد الظلم الخارجي والداخلي
وطيلة القرون الطويلة التي تلت بعثة رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بالرسالة الخاتمة، لعب التأويل الثوري للإسلام دورًا كبيرًا في تعبئة وتحريض قطاعات كبيرة من الشعوب المسلمة في ممارسة الجهاد ضد الظلم الخارجي والداخلي على حد سواء، وللإسلام الدور الأساسي في تحريك الكثير من الرموز السياسيَّة والنضاليَّة التي ظهرت في القرون الثلاثة الأخيرة، من أجل تغيير الواقع الحضاري المتردي في الأمة بعد دخول دولة الخلافة الإسلاميَّة عصور انحطاطها تبعًا لقوانين العمران البشري.
تأصيل المصطلح
جاء في "لسان العرب" لابن منظور أن "الثورة" تعني عدة معانٍ، ولكنها تدور حول فكرة التغيير العميق المرتبط بجوانب حركيَّة، فهي تعني الهياج والانقلاب والتغيير والوثوب والانتشار والغضب.
كما استخدم العرب قديمًا مصطلح "الملحمة" للدلالة على بعض معاني مصطلح الثورة؛ حيث يدل لديهم على التلاحم في الصراع والقتال حتى جعلوا من أوصاف الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" "نبي الملحمة"؛ حيث مارس التغيير بالوسيلتَيْن معًا/ القتال والإصلاح العميق [عمارة، محمد: الإسلام والثورة].
وفي أحاديث صحيحة للرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وردت كلمة "الثورة" مرتبطة بجوانب فكريَّة تتعلق بالفهم والإدراك، ومن بين هذه الأحاديث "أثيروا القرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين"، و"من أراد العلم فليُثوِّر القرآن"، وتعني عبارة "تثوير القرآن الكريم قراءته والتدبر في معانيه وتفسيره.
وتعني الثورة أيضًا الحركة من بعد السكون، فنجد أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ [سورة "فاطر"- الآية 9]. أي تهيجه كي ينتشر.