في هذه الحلقة الثانية، نتحدّث عن مرحلة من المراحل المهمّة في حياة الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله ، وهي مرحلة الانطلاق في الكفاح ودخول العمل العام، فقد نشأ السباعي رحمه الله تعالى في ظروف قاسية عاشتها البلاد من الحيف والظلم والاستبداد في ظل الاستعمار البغيض، ومنذ نعومة أظفاره تحسس مرارة المأساة وعظم الفادحة، إنه كغيرها يريد الحرية والكرامة والعدل، يريد أن يخيم عدل الإسلام ورحمته البلاد، لأجل ذلك رأيناه متمرداً على هذا الواقع المظلم، وبدأ بأعمال جليلة، وهو يخطو أول سن الشباب، من تأسيس لجمعية سرية لمقاومة التبشير بالمدارس الأجنبية، إلى محاربة الاستعمار وجرائمه، ثم قام بإعلان الحرب على الاستعمار من فوق المنابر بما امتلك من لسان بليغ، وحماسة جياشة وأسلوب يسلب الألباب ويبهج المشاعر، وكلفه ذلك فكان الاعتقال على يد الفرنسيين المستعمرين عام 1931، وكان التهمة المناشير، والتي تدل على أفق السباعي الواسع الممتد من الشام إلى الجائر إلى أرجاء العالم الإسلامي الفسيح.
لم يلبث أن عاد إلى السجن عام 1932م بعد الخطبة المشهورة بالجامع الكبير في حمص التي ألهبت المشاعر وأبكت العيون، وبقي شهوراً عدة، لم تلن له قناة أو تفتر له عزيمة.
بعدها انتقل كما ذكرنا إلى الأزهر عام 1932 لمتابعة تحصيله العلمي والشرعي، وهناك بدأت رحلة كفاح جديد مع الاستعمار البريطاني البغيض، فألفي القبض عليه وأودع السجن عام 1934 بتهمة التحريض والمظاهرات لطلاب الأزهر وغيرهم ضد الاحتلال البريطاني. في عام 1940 قبضت عليه القوات البريطانية مرة ثانية بتهمة تأليف جمعية سرية لتأيد ثورة رشيد عالي الكيلاني ودعوة الشعب المصري إلى الثورة، وبعد شهرين سلم إلى السلطات الانكليزية في فلسطين ليبقى في سجنها أربعة أشهر، وفور عودته إلى وطنه سورية قبض عليه الفرنسيون مرة جديدة عام 1941 مخافة إثارة الجماهير عليهم من جديد. ودخل السجن ما بين سجون حمص وبيروت وغيرها قرابة سنتين ونصف السنة، ذاق فيها العذاب ألواناً، مع ما رأى من بشاعة التعذيب والإجرام والتجويع، كل هذا انتقاماً لما غرسه في قلوب الملايين من كره الاستعمار والثورة ضد في كل مكان.
وفي عام 1945 من شهر أيار قامت المستعمرات الفرنسية بالتنكيل والتدمير والعدوان بالمواطنين والثوار، فنهض السباعي كالأسد الهصور مدافعاً قائداً للمقاومة الشريفة المسلحة ضد هذه الطغمة الغاصبة وأطلق الرصاصة الأولى كأنه ي.... فيها نهاية الاستعمار، مع ما أظهر هو والأبطال من بسالة نادرة فاجئت الفرنسيين وألقت الرعب في قلوبهم، وكانت بداية الانهيار.
بداية الدعوة ..
عاشت الديار الشامية في مطلع القرن العشرين حالة من الفراغ العام، فلم تكن هناك تيارات إسلامية تحمل الفكرة أو توضح المعالم، وإنما وجدت بعض الدعوات الدينية والصوفية منها على وجه الخصوص – مع كامل الاحترام لها- لكنها كانت محددة بجوانب خاصة من الإسلام، بما في ذلك الدعوة إلى الزهد، والحض على مكارم الأخلاق والالتزام بالعبادات والذكر، وهذا خير كبير لا شك فيه، لكنها كانت بعيدة عن مشكلات الحياة والناس والشعب والتفاعل معها، مع ما دخل من شطط وخلل في بعض الطرق والجماعات.
وكانت النتيجة التباعد بين حملة رسالة الإسلام آنذاك والجماهير المثقفة والشعوب الواعية، وقد كرس هذا الواقع الاستعمار بكل ما أوتي من قوة وخبث ودهاء، تارة بالدس وأخرى بالافتراء، وإدخال الدخيل من تراثه إلى عقول الناشة ليقلل من شأن الإسلام ورسالته، وليرفع زيف الحضارة الكاذبة التي ادعاها، من خلال مدارسه التبشيرية وأتباعه المضللين...
ولا تنس الصهيونية العابثة، ومخططها الحاقد، وما كان ينفق من دعاية وإعلام متلازم مع التآمر والتخطيط للهيمنة على المنطقة المباركة والأرض المقدسة فلسطين. ولهذا فقد سعى كل هؤلاء إلى تحيد الإسلام عن حياة الناس، وجعله ثقافة تراث للمطالعة والدرس والبحث، فتوقع المسلمون على أنفسهم، وانكفأت الدعوة داخل المساجد، كل حسب منهجه وفهمه يدرس ويعلم.
ومن خلال هذه الأحقاد المنظمة كانت الغاية أن يبعدوا الناس عن الجهاد والدفاع عن الأرض والوطن والعرض، بكل ما أوتوا من قوة وشيطنة ونفاق.
في هذه الظروف كان لا بد للأمة من منقذ يعيد لها المسار، ويحدد لها المنهج، ويحدد لها السبيل، يؤلف القلوب ويجمع الكلمة ويقود هذه الجموع. وشاءت إرادة الله سبحانه أن يكون مصطفى السباعي هو القائم بهذا العبء الثقيل، فقد آتاه الله عز وجل بعد النظر ودقة الرؤيا وصدق النية ما أهله أن يرى المستقبل بعين الحاضر، وأن يرسم الخطة لقيادة السفينة.
وبدأت الدعوة مع الناس تذكيراً وتبصيراً، تعرف الجماهير أهداف الإسلام الكبرى ورسالته السامية، فانجذبت الجماهير لهذا الخطاب الجديد الذي يجمع بين القلب والعقل والذكر والعمل، بين الفكرة والدعوة، على أساس راسخ وبناء متين.
ورغم الاستعمار وخيوطه بدأ العمل لإيجاد الجماعة التي تنتظرها الساحة آنذاك، خاصة وأن التيارات الأخرى كانت تعمل في كل اتجاه، بعضها وطني ضائع، والآخر يعمل لمصالحه ولوقع الاستعمار، وللأسف وجدنا مع نشر التغريب...، ورأينا من ضلَّ وأضلَّ وغوي في زحمة التناحر وعظم التنابذ والتنافر.
محاولات السباعي أثمرت "الرابطة الدينية بحمص" "شباب محمد صلى الله عليه وسلم" "الشباب المسلمين في دمشق" مع ما بدأت عليه من ضغط وتضييق، فقد نجحت كخطوة أولى نحو الأمل المنشود.