بعد اندلاع ثورات الربيع العربي التي أطاحت بعدد من الأنظمة المستبدة بكامل رموزها وصعود نجم التيارات الإسلاميَّة، بمختلف ألوان طيفها السياسي، نرى الكثير من السجالات التي تصل إلى حدِّ الطَّعن في أساس الفكرة، بين التيارات السياسيَّة المختلفة إزاء ما تدعو إليه التيارات الإسلاميَّة التي تنادي بدولة إسلاميَّة، قائمة على أصول مدنيَّة.
وفي حقيقة الأمر، أنَّ هناك إشكاليَّة رئيسة تتعلق بالجانب المفاهيمي لدى التيارات الإسلاميَّة التي تعرض مشروعها السياسي والشامل في مرحلة ما بعد الإطاحة بالديكتاتوريات في دولها؛ حيث تنادي بدولة مدنيَّة.
ولقد جاء هذا العرض استجابة للعديد من الاتهامات التي وُجِّهت إلى هذه التيارات، ومن بينها الإخوان المسلمين، بأنَّها تسعى إلى دولة دينيَّة، على غرار دولة الكنيسة في أوروبا العصور الأولى والوسطى بعد الميلاد، وكان اللجوء إلى مصطلح الدولة المدنيَّة ملاذًا جيّدًا لها لعرض انفتاحها وتماشيها مع روح العصر، واعتبارات عديدة يطرحها وجودها في دول قوميَّة، يوجد في بعضها شركاء أوطان من غير المسلمين، كما في حالة الأقباط في مصر، أو لطمأنة العالم من جهتها، بعد عقود طويلة من التشويش والتشويه.
ولكن جاء استخدام البعض من المنظرين داخل هذه الجماعات لمصطلح الدولة المدنيَّة، اندفاعًا أو حماسة بحسن نيَّة، من دون احتراس، حتى أنَّه أيَّد ما في هذا المصطلح من محتوى، وهو وافد من الغرب أساسًا ضمن منظومة قيميَّة واصطلاحيَّة كاملة مُتضمَّنة في الفكرة الليبراليَّة بالأساس، مثل العلمانية.
ولعلنا جميعًا نذكر العاصفة التي أثارتها تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، خلال زيارته الأخيرة إلى القاهرة، عندما دعا القيادة المصريَّة الجديدة إلى الأخذ بنموذج العلمانيَّة التركي الذي يحاول حزبه، العدالة والتنمية، تطويعه على أساس الرؤية الإسلاميَّة للحزب وحكومته الموجودة منذ العام 2002م.
ولقد كانت جماعة بعمق تاريخ وفكر وتنظير الإخوان المسلمين، أحصف من أن تقع في هذا الخطأ؛ حيث دائمًا ما تعرض أدبياتها فكرة الدولة المدنيَّة ذات المرجعيَّة الإسلاميَّة، وليس فكرة الدولة المدنيَّة على إطلاقها.
وهي إشارة شديدة الأهميَّة في أدبيات الجماعة الأقدم والأكبر بين جماعات الإسلام السياسي؛ حيث إنَّها تتجاوز المصطلح الوافد المعبّأ ببعض القيم الغربية، وتتجه إلى مصطلح آخر أكثر ملائمة لعقيدتنا، وهو مصطلح دولة الشريعة، الذي جاء في أكثر من مجال من مجالات كتابة الإمام الشهيد المؤسس حسن البنا، وخصوصًا في رسائله.
وهنا ينبغي علينا أن نتوقّف لنلقي نظرة متعمّقة على مصطلح "دولة الشريعة في الإسلام"، وكيف أنَّه يستوعب مختلف الإيجابيات التي يحتويها مصطلح "الدولة المدنية"، ويتجاوزها إلى آفاق أسعد، وهي التي تجمع بين محاسن الدنيا والآخرة.
الدولة المدنية:
يُقصد بالدولة المدنيَّة- في صورتها المثالية الخام- تلك الدولة التي تحتضن كل مواطنيها دون النظر إلى الجنس أو الدين أو الفكر،
يُقصد بالدولة المدنيَّة- في صورتها المثالية الخام- تلك الدولة التي تحتضن كل مواطنيها دون النظر إلى الجنس أو الدين أو الفكر، وهي أهم الأركان التي يجب تقوم عليها هذه الدولة، بالإضافة إلى قيم السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات.
كذلك من أهم المبادئ التي تدعو لها الدولة المدنية مبدأ المواطنة، والذي يعني أنَّ الفرد لا يُعرَّف بدينه ولا مهنته ولا مدينته ولا سلطته ولا ماله؛ وإنما يُعرَّف على أنَّه مواطن في الدولة، له حقوق وعليه واجبات.
وكذلك تعدّ الديمقراطية من أهم المبادئ التي تقوم عليها الدولة المدنية، وبالإضافة إلى ذلك، وهو ما نشير إليه ها هنا، تدعو هذه الدولة إلى فصل الدين عن السياسة؛ ليظل الدين لاعبًا دوره في المساجد والمؤسسات التعليمية فقط، كعامل فعّال في بناء الأخلاق وخلق الطاقة والتحفيز على العمل والإنجاز والتقدم، ممَّا يعني عدم تدخل رجال الدين في السياسة؛ لأنَّ هذا يجعل من الدين نقطة جداليَّة تُقصيه عن قداسته، بحسب تعبيرات بعض رموز التيار الليبرالي في عالمنا العربي.
وهو ما تتفاداه دولة الشريعة التي يسعى إليها المسلمون، أيًّا ما كان شكلها؛ حيث إنَّ المسلم من تمام عقيدته أن يؤمن أنَّ الإسلام دين شامل، ويحتوي على كل الحلول للمشكلات الإنسانيَّة، ولا يجب تطبيقه في جانب دون آخر في حياة المسلم، فردًا كان أو مجتمعًا أو دولة.
دولة الشريعة:
بداية، فإنَّ دولة الإسلام كما نعرفها، هي تلك الدولة التي أسسها النبي "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، في المدينة المنورة وتمسك بها الخلفاء الراشدين المهديين "رَضِيَ اللهُ عنهم" من بعده.
قامت هذه الدَّولة على أساس عدد من المبادئ التي تدعو إليها الدولة المدنية بمعناها الليبرالي الديمقراطي المحتوى، مثل احترام الآخر وحقوق الإنسان ومبدأ الشورى
وقد قامت هذه الدَّولة على أساس عدد من المبادئ التي تدعو إليها الدولة المدنية بمعناها الليبرالي الديمقراطي المحتوى، مثل احترام الآخر وحقوق الإنسان ومبدأ الشورى في الحكم وإرساء العدالة وتطبيق القانون، المنبثق عن الشريعة الإسلاميَّة، والأهم، وهو الهاجس الأكبر لدى الآخر غير المسلم حاليًا، أنَّ هذه الدولة قد راعت حقوق غير المسلمين من أصحاب الديانات السماوية الأخرى، وبما في اليهود الذين حاربوا الإسلام والرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم".
وهو صلب محتوى الدولة المدنيَّة التي تدعو لها بعض التيارات السياسية الليبراليَّة بعد اندلاع الثورات العربية؛ حيث ينبغي أن ندرك أن دولة الإسلام التي أسسها نبينا المصطفى "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، لم تكن دولة يحكمها رجال الدين كما يعتقد البعض، وإنما كانت دولة يتساوى جميع أفرادها في حقوقهم وواجباتهم.. "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" [أخرجه البخاري ومسلم].
وهي أيضًا دولة العدالة الاجتماعيَّة، وتتميّز هنا دولة الشريعة عن الدولة المدنيَّة، بأنَّ الأخيرة تعتمد مبادئ الرأسماليَّة التي تعطي القوي الغني أضعاف ما تعطي الضعيف الفقير، أمَّا في دولة الشريعة فلا يطغى الغني على حق الفقير، ولم يكن لذي سلطة أن ينتهك حق من دونه، ولم يكن لمسلم أن ينتهك حق ذمي، فالكل سواء لهم حقوق وعليهم واجبات.
وقد ضربت دولة الإسلام التي أسسها النبيُّ وحكمها الخلفاء الراشدون من بعده أروع المُثُل في مبادئ المواطنة وقبول الآخر، بخلاف مجتمعات "مدنيَّة" عديدة؛ حيث السود والمرأة في الولايات المتحدة كانوا إلى السبعينيات خارج الكونجرس، والذي هو ممثل الشعب!
المجتمع الإسلامي الأوَّل في عهد النبي "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" تعايش فيه اليهود بعهد مع المسلمين، وكان معاملته "عليه الصَّلاة والسَّلام"، معهم غاية في التسامح والمحبة
فالمجتمع الإسلامي الأوَّل في عهد النبي "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" تعايش فيه اليهود بعهد مع المسلمين، وكان معاملته "عليه الصَّلاة والسَّلام"، معهم غاية في التسامح والمحبة والحُلم حتى نقضوا عهدهم معه "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" وخانوه.
وقد أوصى الرَّسول "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" بمن يعيشون بين ظهرانيي المسلمين من المعاهدين خيرًا، فقال صلوات الله وسلامه عليه: "ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" [أخرجه البخاري].
كما أوصى "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" المسلمين بعدم قتل المعاهدين، ففي حديث ورد في صحيح البخاري أيضًا، يقول "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم": "من قتل معاهدًا لم يَرَح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا".
كما أوصى النبي صحابته على الذميين خاصة أهل مصر، فعن أبى ذر "رَضِيَ اللهُ عنه" عن رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" أنه قال: "إنكم ستفتحون مصر وهى أرض يسمى فيها القيراط فإذا فتحتموها فاستوصوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا" [أخرجه مسلم].
كذلك سار الخلفاء الراشدون على نهج رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، فها هو ذا الصِّديق أبو بكر "رَضِيَ اللهُ عنه" يبعث بكتاب لأهل نجران النصارى يقول فيه أنَّه يجيرهم بجوار الله وذمة محمد "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" "على أنفسهم وأرضهم وملتهم وأموالهم وحاشيتهم وعبادتهم وغائبهم وشاهدهم وأساقفهم ورهبانهم وكل ما تحت أيديهم"، وهو ذات نهج الفاروق عمر "رَضِيَ اللهُ عنه" مع مسيحيي بيت المقدس ومصر.
وهكذا نرى كيف أنَّ كلَّ من مبدأ المواطنة والعدل والمساواة بين الرَّعايا في الحقوق والواجبات كان قائماً في دولة الإسلام الأولى التي أقامها رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" في حكمها الخلفاء الراشدين.
ومن المبادئ التي أسست عليها دولة الشريعة في الإسلام كذلك كان مبدأ الشورى، وهو أحد أرقى صور ما يطلق عليه اليوم مصطلح الديمقراطية في الدولة المدنية.. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)﴾ [سُورة "الشُّورى"]، وعن النبي "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم": "من أراد أمرًا فتشاور فيه وقضى هدى لأرشد الأمور" [أخرجه البيهقي].
وكان النبي "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" دائم المشورة لأصحابه، حتى أنَّ أبا هريرة "رَضِيَ اللهُ عنه" يقول: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، فها هو ذا النبي "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" يستشير صحابته قبيل غزوة بدر في تحديد مكان المعركة، وقبيل غزوة الأحزاب في تحديد استراتيجية الدفاع عن دولة الإسلام الوليدة في المدينة، واستشار "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد في حادثة الإفك، وكيف يتصرف مع السيدة عائشة بنت أبي بكر "رَضِيَ اللهُ عنهما"، فقد كان النبي يستشير أصحابه في جميع شئون المسلمين بما في ذلك أمور السلم والحرب.
دولة الشريعة في الإسلام قد استوفت مبادئ العدل والمساواة والمواطنة والتسامح وقبول الآخر والديمقراطية
وهكذا نجد أنَّ دولة الشريعة في الإسلام قد استوفت مبادئ العدل والمساواة والمواطنة والتسامح وقبول الآخر والديمقراطية في وقت كان فيه الغرب يعيش قبائل متحاربة غارقة في ظلمات الجهل والمرض، فعلينا نحن العرب والمسلمين أن نحذر من أن نستورد من الغرب مصطلحات وأفكار ومبادئ يعتقدون أنَّهم سبقونا إليها، على الرَّغم من أننا توصلنا إليها منذ فجر التاريخ.
إنَّ علينا أن ندعو في أدبياتنا، كما دعا الإمام الشهيد حسن البنا في رسائله والشهيد سيّد قطب في كتبه.. إلى دولة الشريعة التي هي الأكمل والأوفق لمجتمعاتنا من أيّة مبادئ أخرى مستوردة يدعو إليها البعض تحت ضغط سياسي.